ومعنى ما ذكره أبو البركات الأنباري: أن القائلين بجواز الأخذ بالاستحسان قد اختلفوا في حقيقته، فذهب بعضهم إلى أن المراد به هو أن يُترك الأصل إلى غيره لدليل.
وقد ذكر الأنباري أن من أمثلة ترك قياس الأصول مذهب من ذهب إلى أن رافع الفعل المضارع عند تجرده من الناصب والجازم هو حرف المضارعة الزائد في أوله، يعني: أن القائل بذلك قد ترك قياس الأصول؛ لأن حرف المضارعة صار جزءًا من الفعل، والأصول تدل على أن يكون العامل غير المعمول وألا يكون جزءًا منه؛ لأن جزء الشيء لا يعمل فيه، وقد نسب هذا الرأي للكسائي، وقد ترك قياس الأصول لدليل اعتمد عليه، وهو ملازمة هذه الأحرف للمضارع في الأحوال الثلاثة؛ ولم تعمل مع عاملي النصب والجزم لقوتهما عنها.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالاستحسان، هو: تخصيص العلة، ومعنى تخصيص العلة: عدم اطِّرادها، ومثال تخصيص العلة: ما جاء في جمع أرض جمع مذكر سالمًا بالواو والنون رفعًا، والياء والنون نصبًا وجرًّا مع أنها ليست علمًا لمذكر ولا صفة له؛ فقد فقدت شروط جمع المذكر السالم لأنها اسم جنس جامد مؤنث؛ وإنما جمعت هذا الجمع؛ فقيل: أرَضون؛ عوضًا من حذف تاء التأنيث؛ لأن الأصل أن يقال في أرض: أرضة؛ بالهاء الدالة على التأنيث؛ لأنها علامة لفظية؛ فهي أصل لتقديرها؛ فلما حذفت التاء في اللفظ مع بقاء معناها جمعت بالواو والنون عوضًا من التاء المحذوفة.
ونلحظ أن هذه العلة غير مطردة؛ فالعرب قد خصصوا هذه اللفظة بجمعها جمع مذكر سالمًا، ولم يسمع ذلك في نظائرها من كل اسم مؤنث حذفت منه تاء التأنيث، نحو: شمس، وقِدر، ودار؛ فإن الأصل في هذه الكلمات الثلاث: