وقال أبو داود: "لا تُقلِّدْني، ولا تُقلِّد مَالكاً، ولا الثَّوري، ولا الأوزاعي، وخُذ من حَيث أخذوا".
وقد قيل لأبي حنيفة: "إذا قُلتَ قَولاً وكتابُ الله يُخالِفه؟ قال: اتركوا قَولي لكتاب الله. فقيل له: إذا كان خَبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُخالفه؟ قال: اتركوا قَولي لِخَبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقيل له: إذا كان قول الصحابة يُخالِفه؟ فقال: اتركوا قَولي لِقول الصحابي".
وروي عن الإمام مالك -رحمه الله- قوله: "إنما أنا بَشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي: فما وافق الكتاب والسّنّة فخُذوا به، وما لم يُوافِق الكتاب والسّنة فاتركوه".
وقال أبو الفَرج ابن الجَوزي: "في التقليد إبطال لمَنفعة العَقل، لأنه خُلِق للتّأمّل والتَّدبّر. وقَبيح بمَن أُعطِيَ شَمعة يَستضئ بها، أن يُطْفئها ويَمشي في الظُلمة".
وهكذا حينما تخلّص علماء السّلف ومَن اقتفى أثَرهم عَبر تاريخ الأمّة، من رِبقة التَّقليد، وتحرروا من قَيْد التَّبعيّة، وانطلقوا في رياض الكتاب والسُّنّة وأقوال صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتتّبعوا الأدلّة ووازنوا بينها، فرجّحوا أقواها وردُّوا ضعيفها، فاستطاعوا أن يَستَنبطوا الأحكام الشَّرعية، ويَضعوا أُسُس وقَواعِد عِلْم الفِقه وأصوله، ودُوِّنت مُؤلَّفاتهم وآراؤهم التي كانت شَمساً ساطِعة في سماء الحضارة الإسلامية.
ونظراً لانتشار الأمِّيّة الدِّينيّة بين المُسلمين، وشيوع الجَهل بأحكام الدِّين، وانشغال عُموم الأمّة بدنياها وأحوال مَعيشتها أكثر من انشغالِها بأمور دِينها، فاستسهلوا التَّقليد واستصعبوا التَّفكير؛ لِذا يَجب على الدُّعاة أن يَستجمعوا شُروط الإفتاء، فهم الآن أهلُ الذِّكر الذين أمَر القرآن بالتّوجّه إليهم والاستفسار منهم، كما قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.