فيقول -رحمه الله-: "إذا كان كلام الله كتاب البيان المعجِز، فإن كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- سُنّة هذا البيان".
وإذا كان البلاغ صفة كلّ رسول، فإن البلاغة صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تجمّعت فيه -صلى الله عليه وسلم- خصائص البلاغة بالفطرة، وتهيأت له أسباب الفصاحة بالضرورة. فلقد وُلد في بني هاشم، واستُرضع في بني سعد، وتزوّج من بني أسد، وهاجر إلى بني عمرو -وهم الأوس والخزرج-. ثم كمّله الله برجاحة العقل، وسماحة الخلق، وصفاء النفس، وقوة الطبع، وثقوب الذهن، وتمكّن اللسان، ومحض السليقة، ليكون لساناً لكلمته، مُظهراً لكنوزه. كل ذلك قد مكّن للرسول -صلى الله عليه وسلم- من ناصية البلاغة، فأسلست له الألفاظ، وأسمت له المعاني، فلم ينِدّ في لسانه لفْظ، ولم يضطرب في أسلوبه عبارة، ولم يعزب عن علْمه لغة، ممّا جعل الصحابة يعجبون من تلك الفصاحة، فيقول لهم: ((أدّبني ربّي فأحسن تأديبي. ورُبِّيتُ في بني سعد)).
ثالثاً: نشأة علوم اللّغة العربية:
اشتهر العرب من بين الأمم بالفصاحة والبلاغة، وحُسن التعبير، وجمال التصوير. يجري كلامُهم على الطّبع ليس فيه تكلّف ولا زُخرف. يعبِّر أصدق تعبير عن البيئة الصحراوية، بما تحمل من خُلُق الشهامة والمروءة والنجدة. أمّة تتيه فخراً بفرسانها وشعرائها، وتدفع للصدارة حكماءها وخطباءها. وكانت اللغة العربية خالية من التنقيط والتشكيل، إذ إن العربي كان ينطق بالفطرة، ويراعي القواعد بالسليقة، ليست فيه كلمة نابية أو عبارة جافية. فأسلوبهم قويّ اللفظ، متين التركيب، يتّسم بنصاعة البيان، وطلاقة البديهة، ووضوح التعبير، وجلاء الفكرة. ولا يتعثّر لهم لسان، ولا يسقط من كلامهم حرف، ولا تشذّ عن النطق السليم كلمة، ولا تغيب عنهم قاعدة من قواعد الإعراب لحظة؛ فهم يراعونها بالفطرة، ويلتزمون مخارج الحروف بالسليقة.