أما الدعاة المحترفون والمتجردون من هذا الإيمان، الذين اتخذوا الدعوة وسيلة للعيش الرغيد وسببًا للرزق الوافر، وغاية ينتهون إليها للشهرة والزعامة؛ فهؤلاء كفئران السفينة لا يهمهم إلا بطونهم غرقت السفينة أم نجت، والفرق بين الصنفين واضح بيّن، الصنف الأول يؤثر بأسلوبه المملوء بالإيمان وبطريقته المشحونة باليقين، فيسير الناس تبع إرشاده ويسلكون السبيل الذي يسلكه ويسخرون كل ما يملكون لنصرة الحق ونشره بين الناس. وأما الآخرون فكلامهم كالطبل الأجوف يُرعب ولا يطرب، ويُقلق ولا يرشد، ولهذا فإنه يدخل من أحد الأذنين ليخرج من الأخرى، فلا ينفعل به الناس ولا يكاد يصل إلى آذانهم حتى يتساقط تحت أقدامهم، وأنى له الطريق إلى قلوبهم؟ ولهذا لما سُئل عبد الله بن المبارك: لماذا يجلس بعض الناس إلى الوعّاظ والمرشدين فيتأثرون بهم ويبكون بين أيديهم، تصل الكلمة إلى آذانهم فتسلك طريقها إلى قلوبهم، فتستقرّ فيها، وتترجمها جوارحهم عملًا خيرًا رشيدًا، يصدق ما في قلوبهم، فإذا جلسوا إلى آخرين وذكَّروهم بمثل ما ذكرهم به الأولون، وقد يكون أسلوبهم أجود وألفاظهم أحلى وأداؤهم مثيرًا، ومع كل هذا فإن الناس لا يتأثرون بهم، ويقومون من مجلسهم وكأنهم لم يكونوا فيها، فأجاب ابن المبارك -رحمه الله-: "ثكلتك أمك يا هذا، النائحة المستأجرة كمن تبكي ولدها؟! " لا يعقل أبدًا ولا يمكن، ولهذا قالوا ليست النائحة كالثكلى.
إن الإيمان هو الذي جعل بلالًا -رضي الله عنه- يتحمّل ما تحمل وصهيبًا يستعذب حرارة النار، وسمية تستخف بالقتل، إن هذا الإيمان هو الذي دعا غلام أصحاب الأخدود أن يضحي بنفسه لتنتشر عقيدته، وجعل أتباعه يفضلون النار المستعرة ولا يعودون إلى الكفر أبدًا، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: ((ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن