أخرى، ولم يجتمع من ذلك علما بالمعنى الاصطلاحي للعلم؛ لأن مبعث تأصيل العلوم وإفرادها بالتصنيف هو الحاجة إليها، ولم تكن الدعوة إذ ذاك عملًا مهجورًا ولا أمرًا مستورًا؛ إذ كان المجتمع الإسلامي كله ناشطًا بالدعوة إلى الله، تسري روحها في أوصاله وتتنفس رحيقها جنباته. وكانت تلك الدولة الإسلامية آنذاك ترى الدعوة إلى الله أولى وظائفها في الداخل ومحور علاقاتها في الخارج، بل كانت ترى الدعوة سرّ وجودها ونظام حياتها وبقائها؛ تارة تخاطب بإرسال الدعاة وتارة تدعو باستقبال الوفود وتارة تدعو بالحسبة والتغيير وتارة تزيل العقبات أمام الدعوة بالجهاد، فكان المجتمع أفرادًا وجماعات حكَّامًا ومحكومين، متحققين في الجملة بقول رب العالمين: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41)، وبقي الأمر مقاربَا حتى خلف من بعدهم خلف أضاعوا الوجبات واتبعوا الشهوات وأهملوا العلم والعمل على مختلف المستويات، فما استفاقوا إلا على استلاب دولتهم وزوال خلافتهم، وتفرق شملهم، وتغير حالهم، واستبدالهم بالقوة ضعفًا وبالعزة ذلًّا وبالغنى فقرًا.

إلا أن السُّبات وإن طال فلا بد بإذن الله -عز وجل- من يقظة، والغفلة وإن استمرت فلا بد من صحوة، فتنادى المصلحون من كل جانب ليعود المسلمون إلى سابق عهدهم وسالف مجدهم، وعادت الدعوة لتبعث الأمة من جديد فكتب الدعاة العلماء يشخِّصون الداء ويصفون الدواء، وبرزت الحاجة إلى هذا العلم -علم أصول الدعوة- بإلحاح؛ نظرًا لما يكتنف الأمة من جهالة وما يحيط بالعمل الدعوي من غموض في بعض مفاهيمه وخللٍ في بعض أصوله واضطراب في مناهجه وقصورٍ في أساليبه وجمود في وسائله وخطورة في نوازله، وعقبات عملية في طريقه تهدف إلى وأده تارة وتشويهه وتعويقه تارة أخرى، فقام في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015