يستأذنه إذا حان الأجل، ومن جهله أنَّه يتعب كثيرًا، ويترك لذائذ كثيرة في سبيل ظفره بربحٍ آجل في الدنيا، ولو عقل لفعل للآخرة ما يفعله لنوال هذا الربح. ألَا ترى الطالب يحبس نفسه في بيته يقرأ ويدرس أيامًا وأسابيع لينجح في الامتحان، وإن فاتته بعض اللذات، والتاجر يركب الأخطار ويفارق أهله ويقطع الفيافي والقفار ليربح شيئًا من المال، فلماذا لا يعمل للآخرة كما يعمل في هذه الأحوال، ثم أليس من جهل العاصي أنَّه إذا سمع قول طبيب يخبره أنَّه إذا شرب كذا أو أكل كذا مات، أو كان على خطر شديد، فإنه يتَّبِع نصيحة الطبيب، ويفطم نفسه مما نهاه عنه، مع أنَّ قول الطبيب يحتمل الخطأ، بينما ما أخبرنا به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من وعيد الله وعذابه لمن تخطَّى حدوده هو خبر صدق ويقين قطعًا، فلماذا لا يأخذ بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويأخذ بقول الطبيب، لولا جهله وجهالته؟ ومن جهل العاصي اتكاله على عفو الله ورحمته، ونسي أنَّ رحمة الله قريب من المحسنين، وأنَّ العارفين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم، وأنَّ الراجي حقًّا من قام بالأسباب وانتظر رحمة العليم العلَّام، كالذي يحرث الأرض ويلقي البذر ويقوم بالسقي ويتعَهَّد الزرع، ويرجوا أن يحفظ الله زرعه ويجنِّبه الآفات. أمَّا الأحمق المغرور فهو الذي يترك أرضه تملأها الأشواك والأدغال، ولا يلقي فيها بذرًا، ويرجو أن ينبتها الله له.
الوقاية من المعاصي:
637- العلاج من ارتكاب المعاصي أو الميل إليها، وإن كنَّا قد أشرنا إليه بعض الإشارة، سنتكلم عنه إن شاء الله تعالى عند كلامنا عن أساليب الدعوة في الباب الرابع، ويكفينا هنا أن نقول: إنَّ الوقاية خير العلاج كما قالوا، وهو يصدق في الوقاية من أمراض البدن ومن أمراض القلب، والمعاصي هي سبب مرض القلب، ونتائج مرض القلب، فكيف يتقي من المعاصي؟ في كل نفس استعداد وقابلية لارتكاب المعاصي {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ، فالنفس تحمل جراثيم المعاصي، وهذه الجراثيم تكون مقهورة مغلوبة ما دام القلب في صحة وعافية معمورًا بالإيمان، فإذا ضعف لأيِّ سبب كان، ووجدت هذه الجراثيم المناخ الملائم انتعشت ونمت وظهرت فعاليتها، كما يحصل لجراثيم الجسم، ومن المناخ الملائم لجراثيم المعاصي كل المهيِّجَات للمعصية من المرئيات والملموسات والمسموعات والمطعومات،