المسلم فتغلبه شهوته، ويقبل إغراء الشيطان فيرتكب المعصية؛ لأنَّ العقاب على الذنوب شيء موعود به في الآخرة، ولذائذ الدنيا المحرَّمة شيء حاضر، والنفس مجبولة على التأثُّر بالحاضر لا بالغائب، وإن كانت عاقبة الحاضر مُرَّة وعاقبة الغائب حلوة، ولا يمنعها من هذا التأثير إلّا الإيمان القوي المنير الذي يجعل الغائب كالحاضر، فيكون التأثر به لا بالحاضر المحسوس فعلًا، قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ، فالإنسان بطبيعته يؤثر اللذة العاجلة -وإن كانت تافهة- على اللذة الآجلة -وإن كانت جسيمة، ومع ضعف الإيمان يقوى هذا الطبع وهذه الجِبّلة في الإنسان، فيستسهل ارتكاب المخالفة ابتغاء اللذة العاجلة، أو دفع المشقة العاجلة، لا سيما مع أمل البقاء والتوبة في المستقبل وتسكين النفس بأمل عفو الله تعالى.
جهل العاصي:
636- العاصي جاهل قطعًا، فلولا جهله لما عصى الله تعالى، قال ربنا -جلَّ جلاله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1، قال مجاهد وغير واحد من أهل العلم: كل من عصى الله خطأً أو عمدًا فهو جاهل حتى ينزع من الذنب. وقال قتادة عن أبي العالية: أنه كان يحدِّث أنَّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة. وعن مجاهد أيضًا قال: كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عمله. وعن ابن عباس: من جهالته عمل السواء2.
ووجه جهل العاصي أنَّه يجهل قدر ربه، وما يجب له من طاعة لحق ربوبيته وألوهيته وعظمته وكمال إنعامه على عبده، وكمال فقر العبد له، وعدم خفاء شيء على الله تعالى مِمَّا عمل الخلق، وأنهم مجزيون على أعمالهم، ومن جهل العاصي جهله بضرر الذنوب، وكان ينبغي أن ينفر منها أشد من نفرته من الحيات والعقارب، ولا يلامسها ولا يضعها على جسمه، ولكنَّ العاصي من جهله يقبل عليها ويباشرها، ومن جهله أن يؤثر العاجلة على الآخرة، وما نسبة العاجلة وما فيها من لذائذ إلى نعيم الآخرة إلّا كنسبة ما يعلق بالأصبع إذا غمستها في البحر إلى مائه، ومن جهله التسويف وطول الأمل وتأجيل التوبة، ولم يعلم أن الموت أقرب إلى الإنسان من شراك نعله، وأنه لا