الْأَوْثَانِ} 1، ثم ذكر الرازي القول الثاني، وهو أنَّ "من" للتبعيض؛ لأنَّ "في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ثم قال عن أصحاب هذا القول: إنَّ هذا التكليف مختص بالعلماء؛ لأنَّ الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر، فثبت أنَّ هذا التكليف متوجِّه على العلماء لا على الجهَّال، والعلماء بعض الأمة"2، وبنفس هذا المعنى وذكر القولين في هذه الآية، جاء تفسير القرطبي وتفسير الجصاص3: والواقع أنَّ القول الذي ذكره الرازي أصح لما استدلَّ به أصحابه، وهو ما ذكره ابن كثير بعبارته الدقيقة التي ذكرناها؛ إذ جعل الوجوب على كل فرد، مع لزوم وجود فرقة متصدية لشأن الدعوة إلى الخير.
والحقيقة أنَّ هناك شيئًَا من الالتباس في فهم هذه المسألة بسبب كلمة "العلماء" التي فسّر بها أصحاب القول الثاني كلمة "ولتكن منكم أمة" الواردة في الآية، باعتبار أنَّ الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم، والسبب الثاني لهذا الالتباس متأتٍ من فهم الفرض الكفائي، فلا بُدَّ من توضيح هذين الأمرين، فنقول:
لا شكَّ أنَّ الدعوة إلى الخير، وأعلاها الدعوة إلى الله، مشروط لها العلم، ولكن العلم ليس شيئًا واحدًا لا يتجزَّأ ولا يتبعَّض، وإنما هو بطبيعته يتجزَّأ ويتبعَّض، فمن علم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى جاهل بالثانية، ومعنى ذلك أنَّه يُعَدّ من جملة العلماء بالمسألة الأولى، وبالتالي يتوفّر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما علم دون ما جهل، ولا خلاف بين الفقهاء أنَّ من جهل شيئًا أو جهل حكمه أنَّه لا يدعو إليه؛ لأنَّ العلم بصِحَّة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة، وعلى هذا فكلّ مسلم يدعو إلى الله بالقدر الذي يعلمه كما سنبينه فيما بعد، ويكون هذا المعنى هو المقصود من قولهم: إنَّ الدعوة تجب على العلماء لا غيرهم، أي: على من يعلم المسألة وحكمها التي يدعو إليها، سواء كان من عامَّة المسلمين أو ممن نال حظًّا كبيرًا من العلم، وبهذا يظهر فساد قول من قال: إن المقصود بالعلماء هم الذين نالوا حظًّا كبيرًا من العلم دون سواهم، وقد يسمونهم برجال الدين؛ لأن هذه التسمية تصدق على كل مسلم، فهو من