ومما تجدر الإشارة إليه أيضًا أن العصر المملوكي لم يكن مجرد عصر إحياء ما زوى، ولَمّ شتات ما اندثر من آثارنا الفكرية والحضارية، وتسجيل ما هو مهدد بالزوال من أدبنا، ما كان منه مسطرًا في الكتب أو مبعثرًا في الأذهان، لم يكن ذلك العصر هكذا بأي حال من الأحوال، وإنما كان عصر عطاء وبناء وابتكار، والدليل على ذلك هؤلاء الأعلام الذين أشرت إلى بعضهم، بالإضافة إلى العالم الجليل، والمفكر الأديب، والمؤرخ الدقيق، والفيلسوف العميق: عبد الرحمن بن خلدون.
ورغم أن الحكام لم يكونوا عربًا آنذاك لكنهم كانوا مسلمين، والحضارة في جوهرها إسلامية قبل أن تكون عربية، وليس من المعقول أو المقبول أن يقف هؤلاء الملوك -الذين قهروا التتار وحاربوا الصليبيين- في وجه الفكر الإسلامي، والحيلولة دون عطائه، وفي ظل هذا الوضع الذي كان عليه الحال في تلك الفترة من تمزق وضعف، وغزو تتري وضياع ثروة طائلة، وحكام ليسوا عربًا، في ظل هذا الوضع كله تنبثق هذه الموسوعات ويظهر هذا الفكر؛ إنه لأمر عجيب حقًا يدعو إلى التأمل، ومعرفة الأسباب الداعية لذلك، فكم من عصور عاش فيها العرب آمنين مستقرين، ولم تبدع عبقريتهم مثل ما أبدع العلماء في العصر المملوكي، الأمر الذي يدعونا إلى الجري وراء الأسباب والكشف عنها، فما السبب وراء ذلك؟ في الحقيقة هناك عدة أسباب نشير إليها في عجالة:
أولا: خوف العلماء من ضياع التراث العربي والإسلامي، واندثاره على يد المغول والتتار، هذا الخوف كان يسيطر على قلوبهم، فماذا يفعلون تجاه ذلك التراث؟ أقبلوا عليه يجمعون ما بقي منه، ويضمنوه موسوعاتهم، وساعدهم على ذلك تمتعهم بموهبة فطرية في شتى ميادين العلم والمعرفة، وفكر ناضج وقدرة فائقة على التأليف.
ثانيا: التنافس الشديد بين العلماء في ذلك المجال، إذ اتخذوا من تأليف الموسوعات ميدانًا للمفاخرة والمباهاة، فالسيوطي مثلا زادت مؤلفاته على ستمائة