وقد أحس الجاحظ نفسه بهذا الخلل المنهجي عندما قال في بداية حديثه عن البيان، بعد أن أطال الحديث عن العي والعجز: "وكان الحق أن يكون هذا الباب في أول الكتاب، ولكنا أخرناه لبعض التدبير".
ويبدو أن السر في سيطرة النزعة الاستطرادية عليه: أن الجاحظ كان لم يشغل نفسه بالترتيب والتنظيم، انشغاله بتدوين الفكرة، وأن ثقافته الواسعة المزدحمة هي التي أملت عليه ذلك المنهج الاستطرادي، ولكن رغم ذلك فإن الكتاب عالي القيمة، يعد مثلا يحتذى لمن جاء بعده من العلماء، فقد نهجوا نهجه في التأليف، كما فعل ابن قتيبة في (عيون الأخبار) وابن عبد ربه في (العقد الفريد)، وقد ذاع صيت الكتاب في الشرق والغرب في أيام الجاحظ، ومن بعده كثرت نسخه واتسع ذيوعه، وقد حظي (البيان والتبيين) باهتمام بالغ، وإقبال عظيم من قبل الناشرين والمحققين، فطبع أكثر من مرة في مجلدين وفي ثلاثة مجلدات، وقام بطبعه أكثر من طابع وحققه أكثر من محقق، وآخر هذه الطبعات هي الطبعة التي كانت سنة ألف وتسعمائة واثنتين وتسعين، والتي أشرف على شرحه وتبويبه فيها الدكتور علي أبو مِلْحَم، لكنها لم تبلغ مبلغ التحقيق الذي قام به عبد السلام هارون من قبل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.