من أهل العلم"، لا يسجل كل ما سمع، لا؛ لابد من النظر في المسموع وفحصه، والتأكد من صدق المسموع منه، وتسلمنا هذه القضية لقضية أخرى تتصل بها، وتشكل قيمة أخرى من قيم هذا الكتاب، وهي قضية الانتحال، التي أشار إليها ابن سلام، وهو أول من تنبه لها وعرض لها، وقال فيها قولًا فصلًا.
ومما يزيد من قيمة هذا الكتاب أيضًا أن فيه دعوة للتخصص العلمي الدقيق، يبدو ذلك في تقرير ابن سلام أن الناقد وحده هو الذي يستطيع أن يميز بين جيد الشعر ورديئه، عندما يحكي عن خلف الأحمر ويقول: "وقال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك، فقال له: إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته، فقال لك الصراف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟! "، ومن ثم قرر ابن سلام أن الشعر صناعة وعلم مهم كبقية العلوم، يأتي عن طريق الدرس والممارسة، كذلك النقد أيضًا: "وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات".
هذه الحقيقة نظرة جيدة من ابن سلام، وربما كان الدافع وراء القول فيها ما رآه من وضع الرواة، وأنه لا ينهض بكشف هذا الموضوع إلا ناقد متخصص، ولا يتمكن من الوضع إلا شاعر صناعة، الحقيقة ابن سلام يعد نموذجًا فريدًا في الاعتداد بالرأي، والموضوعية في الحكم، ومخالفته الرأي السائد، طالما أن المخالفة قائمة على أسس علمية، ومقاييس ثابتة واضحة.
بالإضافة إلى ما سبق يمكن أن نعد كتاب (طبقات فحول الشعراء) كتابا في الأنساب، وإن غلبت عليه سمة الترجمة الشخصية للشعراء، كما يمكن أن نعده كتابًا في التاريخ الأدبي؛ لأنه يرصد كثيرا من الظواهر الفنية والفوارق البيئية، ويوضح أهم المؤثرات في حياة الشعراء، وكذا يعد كتابًا في النقد الأدبي، انطلاقًا من فكرة الطبقات في حد ذاتها، ثم الآراء النقدية التي أوردها الرجل، وهو يعلق على النماذج، أو يحللها، أو يجري موازنة بين الشعراء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.