الحقيقة أننا لو نظرنا إلى الغاية عند هؤلاء العلماء لوجدنا أن غايتهم نبيلة، فكانوا يجمعون هذه الأشعار ويودون حفظها أو يدعون إلى حفظها ويسجلونها أو يدونونها في كتب بقصد حفظها من الضياع.

وهناك سبب آخر كانوا يقصدون من خلال ذلك تربية الملكة الأدبية والفنية لدى المتذوقين والمتعلمين هذه المختارات التي دونها هؤلاء العلماء في كتب أكيد سيأتي زمن -كالزمن الذي نحن فيه الآن، وقد سبقنا إلى هذا كثير في الأزمنة المتقدمة- ويطلعون على هذه النماذج، فيتذوقونها ويتعلمون منها من خلال الخبرة والممارسة والمران والتدريب.

كانت هذه المختارات في الحقيقة مجالا خصبًا لكثير من الدراسات النقدية والأدبية التي استطاع أصحابها الوصول إلى مجموعة من المقاييس النقدية لازلنا نتدارسها إلى الآن ولو أخذنا مثلا كتاب (المفضليات) أو (الأصمعيات) أو المعلقات لوجدنا أن هناك كثيرا من الدراسات التي قامت حول هذه الأشعار التي دونت في هذه الكتب، ولم تكن هذه الدراسات مجرد نظرات عابرة بالعكس، وإنما كانت نظرات متعمقة، وكانت الغاية منها هي استنباط واستنتاج المقاييس الفنية لدى المبدعين، ولدى الذين قاموا على اختيار هذه النماذج التعرف على أذواقهم، والتعرف على الملكة الفنية التي كان يتصف بها هؤلاء المبدعون آنذاك في العصور المتقدمة.

هذا الاتجاه -اتجاه الاختيارات الأدبية المجردة- ظهر في مرحلة مبكرة من مراحل التأليف عند العرب، ويمكن أن نعده أول اتجاه يظهر أو المرحلة الأولى من مراحل التأليف، وصرف أصحابه جل عنايتهم نحو الشعر خاصة لماذا؟ لأن الشعر له مكانة عظيمة لدى العرب ولأن الشعر له رواة، فمن المؤلفين من شغل نفسه بجمع نماذج من الشعر لشعراء مختلفين في العصر، بعض العلماء الذين كتبوا في هذا الاتجاه كان يختار مثلا شاعرا من الجاهلية، وشاعرا من صدر الإسلام وشاعرا من العصر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015