أشرنا إلى صفات الباحث، والمحقق باحث يتصف بما يتصف به أي باحث، يعني: أضف إلى الشروط التي ذكرتها قبل ذلك في الباحث ما أشير إليه الآن، يظن البعض أن التحقيق عمل سهل وهين، وأنه مجرد نسخ لمخطوط ما مصحوب ببعض التعليقات من هنا أو من هناك، هذا خطأ بيِّن، فالتحقيق ليس بالعمل السهل ولا الهين ولا يعرفه إلا من سلك ضروبه وخاض غماره، فقد يقضي المحقق يوما كاملا في تصحيح كلمة أو إقامة عبارة أو تخريج بيت من الشعر، أو البحث عن علم من الأعلام الواردة في المخطوط، وقد لا يجد في النهاية شيئا من ذلك بعد مشقة وعناء. إن الباحث حين يتخذ من التحقيق مجالا للدرس والبحث فإنه سوف يواجه كثيرا من الصعاب والمشاق، التي لا يقدر على تحملها إلا عالم كفء، ومن هنا فإن ثمت شروط ينبغي أن تتوفر في كل من يصح عزمه، ويختار التحقيق مجالا لدرسه وبحثه:
أولا: سعة الصدر والجَلَد والمثابرة وتجنب العجلة والجزع، فالمحقق قد تنغلق أمامه عبارة محرفة لا يجد لها أثرا فيما بين يديه من مراجع، فيقضي في سبيل ذلك وقتا طويلا، ويسعى جاهدًا لتقويمها، وأنى له ذلك إذا كان لا يتصف بسعة الصدر والتؤدة والتأني. ثانيا: يشترط في الباحث المحقق أن يكون على دراية واسعة بعلم التحقيق، يعرف قواعده وأصوله حتى يكون على بصيرة من أمره في تعليقاته في تخريجاته، ولا يجنح أو يجمح.