فأحيانًا يأتي أحد الباحثين، ويطلب منا أن نختار له موضوعًا لبحثه، وهذا ما يسمى بالموضوع الجاهز، فهب أن الأستاذ قال له: اكتب مثلًا عن الخوف في شعر المتنبي، وكان ذلك الباحث غير ملم بفن المتنبي وشعره، وحياته، وسماته الشخصية والخلقية. نفرض أن الباحث لم يكن يعلم شيئًا عن ذلك الشعر إطلاقًا، أو لا يقبل بنفس راضية عن الشعر العباسي مثلًا في نفسه شيء من الشعر العباسي، والمتنبي فحل من فحول شعراء العباسيين. هل يمكن أن يتقدم مثل ذلك الباحث في بحثه خطوة واحدة؟ لا يمكن، وإن تقدم فلن يصل إلى نتائج صحيحة. الطريقة المثلى في مثل هذا الموقف لا أرفض أن أساعدهم، ولكن يأتيني الباحث، ويطلب مني مساعدته في اختيار الموضوع، فأسأله إلى أي العصور تميل يا بني، أو في أي عصر تقرأ أنت الآن؟ فيقول مثلًا: أقرأ في الشعر العباسي. فأقول له: هل قرأت المتنبي؟ فيقول: نعم أو لا. فأطلب منه أن يقرأ حياة المتنبي وفنه بتأن، وأقول له: وأنت تقرأ حاول اكتشاف شخصية ملامح ذلك الرجل من خلال فنه الشعري، ثم أطلب منه تسجيل أبرز الصفات النفسية ظهورًا في شعره. أقول له: وأنت تقرأ حاول أن تقع على بعض الملامح النفسية لهذا الشاعر، فإذا كان الباحث نجيبًا فطنًا وقع على الموضوع بنفسه، الموضوع الذي هو ظاهرة الخوف في شعر المتنبي؛ لأنها واضحة، وإن لم يستطيع ذلك نفرض أنه قرأ المتبني، ولم يصل إلى تلك الظاهرة نفرض أرشده إلى أول الخيط فأقول له: يا بني إن المتنبي كان يتصف بالإباء والشجاعة أليس كذلك؟ فيجيب: بلى؛ لأن هذه ظاهرة لا تنكر. فأقول له: ألا ترى في شعره ما يخالف هذه الظاهرة؟ وبذلك أكون قد حصرت دائرة الإطلاع في جانب واحد، وهو جانب الشجاعة ونقيضها فيذهب الباحث مرة أخرى إلى ديوان المتنبي ويعيد القراءة من جديد، يعيد الباحث النظر من جديد هذه قضية