والحقيقة أن في هذا ظلم للعرب ظلم بين؛ لأن علماء العرب قد عرفوا أصول هذا المنهج قبل الأوربيين بأزمنة طويلة، يبدو لنا ذلك من خلال مؤلفاتهم، التي لا تزال منارة يهتدي بها كل من يسلك هذا الدرب، في الوقت الذي أقبل فيه هؤلاء العلماء، يؤلفون موسوعاتهم دون علم بالمصطلحات الحديثة، نعم لم يكن هناك علم يسمى علم المصطلح، أو علم المنهج، ورغم ذلك نجحوا في التأصيل لمناهج كثيرة.

كتبوا هذه المؤلفات بفطرتهم، واعتمدوا فيها على أذواقهم، ونضرب مثلًا بهذا بكتاب (طبقات فحول الشعراء)، لابن سلام الجمحي، حيث سار فيه على منهج واضح أقرب ما يكون إلى المنهج التاريخي، كيف ذلك؟ عرفت كما سبق أن أصول المنهج التاريخي، التي وضعها علماء الغرب تتمثل في الزمان، والمكان، والبيئة، والجنس، إذا دققنا النظر في كتاب ابن سلام، نجد أنه سار على نفس هذه المبادئ، التي اهتدى إليها الغربيون في العصر الحديث.

ونوضح ذلك ونشير إلى ذلك سريعًا، فمن حيث الزمان قسم ابن سلام الشعراء إلى قسمين: جاهليين، وإسلاميين، أما المخضرمون فإنهم ينتمون إلى أحد القسمين حسب تراث كل منهم، وعنصر الزمن هنا واضح جدًّا، كما ترى استخدم الزمان؟ نعم استخدمه في كتابه أو في تقسيمه للشعراء، وأما من حيث المكان، فالشعراء عنده أصلًا من أهل البادية، ولكن الرجل نظر فوجد أن شعراء القرى، أي: الحواضر يختلفون عن شعراء البادية، فعقد بابًا لشعراء القرى، ورأى أن لكل قرية شعراءها الفحول، كما فاضل بين شعراء كل قرية، وهو بذلك يؤكد أثر البيئة في الأديب من شتى النواحي.

وهذا ما نبه إليه تين وبرنتيير وسانت بيف من الغربيين، سبقهم ابن سلام إلى هذا، بهذا يتأكد لنا أن ابن سلام سبق الغربيين بمئات السنين، في الاهتداء للمنهج

طور بواسطة نورين ميديا © 2015