ثم يأخذ في تفريعه قبل التكلُّم لكيلا يُرْتَجَ عند الشروع، ثم إنه يُحسِن ربطه ويناسب في الانتقال لكيلا يَشِذَّ عليه وقتَ الاشتغال بالتكلم بعضُ ما كان أعدَّه، فإن لوقت التكلم ضيقًا غيرَ ما يكون من السَّعَة في حال التفكر، فإذا أَخَذ بعضُ المعاني بأيدي بعض، وحَسُن رَبْطُ بعضه ببعض، كان أسهلَ استحضارًا وأقربَ تناولاً للسامع والناقل؛ لأنَّ بعضه يُذَكِّر ببعض، ومن هذا ما يُعبَّر عنه بـ (حُسْن التخلُّص)، ثم يَعقُب ذلك تقريرُ المعنى -على حسب ما تقدم في نقد المعاني- ثم الاستدلال عليه، وذلك لا يعسُر على الخطيب إن هو أحسن تنسيقَ أصول خطبته؛ لأنه يتمكَّن منها كمال التمكُّن.

ثم إن الخطيب لا يستغني عن الاستكثار من استحضار معانٍ صالحة في أغراض شتَّى يحتاج إليها في الاستدلال على فضل شيء أو ضدِّه؛ لتكون له عونًا عند الاندفاع في الخطابة، وتخفيفًا عن ذهنه من شدة التحضير، ولأنَّه إن لم ينفتح له بابُ القول في غَرَضٍ ارتجاليٍّ يأخذْ من تلك المعاني ما يدفع عنه عيبَ الإرْتَاج والحُبْسَة، وقد روي أن عثمان - رضي الله عنه - لما قام عندما بويع بالخلافة أُرتِجَ عليه فقال: "أما بعد، فإنَّ لكل قادمٍ دهشةً، وأنتم إلى إمامٍ فعَّال أحوجُ منكم إلى إمامٍ قوَّال، وإن أَعِشْ فستأتيكم الخطبُ على وجهها". وكذلك روي أن داود بن علي قام للخطبة، فلما قال: (أما بعد) أُرتِجَ عليه فقال: "أما بعد، فقد يجِدُ المُعسِرُ، ويُعسِرُ الموسِرُ، ويُفَلُّ الحديد، وإنما الكلام بعد الإفحام

طور بواسطة نورين ميديا © 2015