معارضة الخصم الألدِّ وإيقاظ الغالط الغافل، فلذلك كان الخطيب في حاجةٍ إلى معرفة محاسن الأشياء وأضدادها ليتوسَّل بذلك إلى مناقضة ضَالٍّ مروِّج أو إرشاد جاهل غيرِ متيقِّن. وحسبك من منفعة الخطابة أن الله تعالى شرع لنا الخطبة عند كلِّ اجتماع مهم من جُمُعة وعيد وحج، وذلك أنَّ النُّفوس تميل في طِباعها لمتابعة الشهوات وتتجهَّم الاتِّباع لمقتضى الأخلاق الفاضلة، فإذا لم تتكرر عليها الدعوة إلى الفضائل بالخطب غلبت عليها أضداد الفضائل والعدالة، وليس كلُّ صِنْفٍ من أصناف الناس بصالحٍ لتلقِّي ذلك وحدَه من مطاوي كتب التهذيب وأوراق الحكمة، ولا كلُّ صالحٍ لذلك بفاعلٍ، فلا جَرَم وجبَ التذكير عند المجتمعات العامَّة لأنها تحشُر أصناف الناس.
ولقد كان الشعرُ أغلبَ على العرب، وكان الشاعر مُقدَّمًا عندهم على الخطيب في الجاهلية -كما قال أبو عمرو بن العلاء- لفَرْط حاجتهم حينئذٍ إلى الشعر الذي يُقيِّد عليهم مآثرهم، ويفخِّم شأنهم، ويُهَوِّل على عدوِّهم، فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مَكسِبةً وتسرَّعوا به إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر، ومع ذلك فلم يُحفظ من خُطَبهم شيءٌ كثيرٌ؛ لأنَّ الشعر كان أسرعَ إلى الحفظ وأعلق بالذهن، ولما جاء الإسلام وتأسَّس الدينُ ارتفع شأن الخطابة، وقُيِّدت آثارُها بشيوع الكتابة.