إن الخطابة ركنٌ عظيمٌ من آداب الاجتماع البشري، فبها يحصل تهذيب الجمهور وحملُهم على ما فيه صلاحهم، وتسكين جَأْشِهم عند الرَّوْع، وبثُّ حماسهم عند اللقاء، وبها تحصل مُحَاجَّة المموِّهين عليهم والمعنِّتين لهم؛ إذ الجمهور إنما يتألف من أفرادٍ لا تبلغ عقولُهم بسرعةٍ إلى إدراك البراهين النظرية، ولا تهتدي من تِلقاء نفسها إلى الغايات الحقيقية، فناسب أن يُعدَل عند خطابهم إلى الأمور الإقناعية، وهي المشهورات الموصِّلة إلى ما يوصِّل له البرهان ولو خالفته في الطريق، وقد يخاطِب الخطيب قومًا من الخاصة إلا أن المَقام يكون نابيًا عن سلوك طريقة البرهان، إما لقِصَر الوقت واحتياج البرهان إلى طُولٍ، وإما لأنَّ في البرهان خَفَاءً وتدقيقًا وتفاوتًا في قَبول الناس له، أو مُكَابرةً في الاعتقاد فيُصَار إلى الإقناعيات والتمثيلات والمسلَّمات لتُمْكِنَ