وهذا: التفصيل قول الصحابة، الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر، ولوازمهما فلا تُتَلقى هذه المسائل إلا عنهم؛ والمتأخرون: لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين؛ فريق أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار؛ وفريق: جعلوهم مؤمنين، كاملي الإيمان؛ فأولئك غلوا وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط، الذي هو في المذاهب، كالإسلام في الملل، فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] [سورة المائدة، آية: 44] قال: ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه، رواه عنه سفيان، وعبد الرزاق؛ وفي رواية أخرى: كفر لا ينقل عن الملة؛ وعن عطاء كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق» (?) .
ثم قال: «الأصل الخامس: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد، أن يسمى مؤمناً، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر، أن يسمى كافراً، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يسمى عالماً، أو طبيباً، أو فقيهاً، وأما الشعبة نفسها فيطلق عليها اسم الكفر، كما في الحديث: «اثنان في أمتي هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت» (?) وحديث: «من حلف بغير الله فقد كفر» (?) ولكنه لا يستحق اسم الكفر على الإطلاق.
فمن عرف هذا: عرف فقه السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم، قال ابن مسعود: من كان متأسياً، فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً؛ قوم: اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم؛ وقد كاد الشيطان بني آدم، بمكيدتين، عظيمتين، لا يبالي بأيهما ظفر؛ أحدهما: الغلو ومجاوزة الحد، والإفراط. والثاني: هو الإعراض، والترك والتفريط» (?) .