وحينما غزت التقاليد العلمية من ملاحظة واستنتاج ميدان علم اللغة أخيرًا قرب نهاية القرن الثامن عشر أصبح للجانب التاريخي للغة اليد العليا على وجه السرعة وقد بدا أن من الخير لعلم اللغة التاريخي أن يتجه وجهة واقعية فيهتم -إلى حد ما- بفحص نمو اللغة وتطورها على أساس من الوثائق الثابتة تاريخيًا بدلا من أن يشغل نفسه بالأسس والنظريات التي ربما تعم اللغات بأسرها. وكذلك فإن ذلك القدر من علم اللغة الوصفي الذي أخذ صورة عملية في ذلك الوقت "لم يكن المصطلح علم اللغة الوصفي قد ظهر بعد" قد وجه اهتمامه إلى العناية بالقواعد النحوية والمعاجم ذات الطابع الإرشادي المعياري الواضح.
وكان التركيز على الجانب المكتوب للغة هو السائد في كل مكان، أما اللغة المتكلمة فقد صورت على أنها شيء متغير خداع، وأن الجزء الثابت منها الذي يستحق الدراسة هو ذلك الموجود في اللغة المكتوبة، ولهذا فليس محل دهشة إذن أن تكون الخطوات الأصلية في علم اللغة قد تناولت بالبحث فقط الجانبين التاريخي والمكتوب للغة، وإن المنهجين الدراسيين في علم اللغة التاريخي ونعني بهما المنهج المقارن، ومنهج إعادة تركيب اللغة قد أسسا كلية على ما وجد من وثائق مكتوبة، ومن حيث طبيعة البحث، فإن علم اللغة التاريخي لا بد أن يعتمد على المادة المكتوبة بقدر ما يعتمد علم اللغة الوصفي على المادة الكلامية لمتكلمين أحياء.
وقد ظهرت المادة المكتوبة في عدة أشكال، فوجدت في النقوش المحفورة على الحجارة، والصخور، وجوانب الجبال، ووجدت في الألواح الطينية المحفور عليها بأدوات مدببة رفيعة، وفي ألواح الشمع المنقوشة بإبر خاصة، وهناك أيضًا وثائق مسجلة على أوراق من البردي والرقائق وعلى أوراق الكتابة العادية المكتوبة. إما بفرشاة، أو بريشة طائر، أو بمداد قلم، أو بقلم رصاص، ويوجد كذلك قدر قليل مكتوب على الآلة الكاتبة أو مطبوع، وكل هذه قد قامت بمهمة التسجيل للأفكار الإنسانية، ولكن مع فارق أساسي.
فبينما بعض السجلات المكتوبة -التي هي في أساسها كتابات تصويرية-