الصريح الذي ليس بتمثيل، كقياس الشيء على الشيء في اللون مثلا: «كحنك الغراب» (?)، تريد أن تعرّف مقدار الشدة، لا أن تعرّف نفس السواد على الإطلاق.
وإذا تقرر هذا الأصل، فإن الأوصاف التي يردّ السامع فيها بالتمثيل من العقل إلى العيان والحسّ، وهي في أنفسها معروفة مشهورة صحيحة لا تحتاج إلى الدلالة على أنها هل هي ممكنة موجودة أم لا فإنّها وإن غنيت من
هذه الجهة عن التمثيل بالمشاهدات والمحسوسات، فإنها تفتقر إليه من جهة المقدار، لأن مقاديرها في العقل تختلف وتتفاوت. فقد يقال في الفعل: إنه من حال الفائدة على حدود مختلفة في المبالغة والتوسط، فإذا رجعت إلى ما تبصر وتحسّ عرفت ذلك بحقيقته، وكما يوزن بالقسطاس، فالشاعر لمّا قال:
كقابض على الماء خانته فروج الأصابع أراك رؤية لا تشكّ معها ولا ترتاب أنه بلغ في خيبة ظنّه وبوار سعيه إلى أقصى المبالغ، وانتهى فيه إلى أبعد الغايات، حتى لم يحظ لا بما قلّ ولا ما كثر.
فهذا هو الجواب. ونحن (?) بنوع من التسهّل والتسامح، نقع على أن الأنس الحاصل بانتقالك في الشيء عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر، ليس له سبب سوى زوال الشكّ والرّيب.
فأما إذا رجعنا إلى التحقيق: فإنّا نعلم أن المشاهدة تؤثّر في النفوس مع العلم بصدق الخبر، كما أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [سورة البقرة: 260]، والشواهد في ذلك كثيرة، والأمر فيه ظاهر، ولولا أن الأمر كذلك، لما كان لنحو قول أبي تمام: [من الطويل]
وطول مقام المرء في الحيّ مخلق … لديباجتيه فاغترب تتجدّد
فإنّي رأيت الشّمس زيدت محبّة … إلى النّاس أن ليست عليهم بسرمد (?)
معنى، وذلك أنّ هذا التجدّد لا معنى له، إذا كانت الرؤية لا تفيد أنسا من حيث هي رؤية، وكان الأنس لنفيها الشّكّ والرّيب، أو لوقوع العلم بأمر زائد لم يعلم من قبل.