وإذا كان الأمر كذلك، فأنت إذا قلت للرجل: «أنت مضيع للحزم في سعيك، ومخطئ وجه الرشاد، وطالب لما لا تناله»، إذا كان الطّلب على هذه الصفة ومن هذه الجهة، ثم عقّبته بقولك: «وهل يحصل في كفّ القابض على الماء شيء مما يقبض عليه؟». فلو تركنا حديث تعريف المقدار في الشدة والمبالغة ونفي الفائدة من أصلها جانبا بقي لنا ما تقتضيه الرّؤية للموصوف على ما وصف عليه من الحالة المتجدّدة، مع العلم بصدق الصفة.
يبيّن ذلك، أنه لو كان الرجل مثلا على طرف نهر في وقت مخاطبة صاحبه وإخباره له بأنه لا يحصل من سعيه على شيء، فأدخل يده في الماء وقال: «انظر هل حصل في كفّي من الماء شيء؟ فكذلك أنت في أمرك». كان لذلك ضرب من التأثير زائد على القول والنطق بذلك دون الفعل.
ولو أن رجلا أراد أن يضرب لك مثلا في تنافي الشيئين فقال: «هذا وذاك هل يجتمعان؟»، وأشار إلى ماء ونار حاضرين، وجدت لتمثيله من التأثير ما لا تجده إذا أخبرك بالقول فقال: «هل يجتمع الماء والنار؟». وذلك الذي تفعل المشاهدة من التحريك للنفس، والذي يجب بها من تمكّن المعنى في القلب إذا كان مستفاده من العيان، ومتصرّفه حيث تتصرّف العينان وإلّا فلا حاجة بنا في معرفة أن الماء والنار لا يجتمعان إلى ما يؤكده من رجوع إلى مشاهدة واستيثاق تجربة.
وممّا يدلّك على أن «التمثيل» بالمشاهدة يزيدك أنسا، وإن لم يكن بك حاجة إلى تصحيح المعنى، أو بيان لمقدار المبالغة فيه، أنك قد تعبّر عن المعنى بالعبارة التي تؤدّيه، وتبالغ وتجتهد حتى لا تدع في النفوس منزعا، نحو أن تقول وأنت تصف اليوم بالطول: «يوم كأطول ما يتوهّم» و «كأنّه لا آخر له»، وما شاكل ذلك من نحو قوله: [من البسيط]
في ليل صول تناهى العرض والطّول … كأنّما ليله باللّيل موصول (?)
فلا تجد له من الأنس ما تجده لقوله: [من الطويل] ويوم كظلّ الرّمح قصّر طوله (?)