وضرب آخر من الأنس، وهو ما يوجبه تقدّم الإلف، كما قيل (?): [من الكامل] ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل ومعلوم أن العلم الأوّل أتى النفس أوّلا من طريق الحواسّ والطباع، ثم من جهة النظر والرّويّة، فهو إذن أمسّ بها رحما، وأقوى لديها ذمما، وأقدم لها صحبة، وآكد عندها حرمة وإذ نقلتها في الشيء بمثله عن المدرك بالعقل المحض
وبالفكرة في القلب، إلى ما يدرك بالحواسّ أو يعلم بالطّبع، وعلى حدّ الضرورة، فأنت إذن مع الشاعر وغير الشاعر إذا وقع المعنى في نفسك غير ممثّل ثم مثّله كمن يخبر عن شيء من وراء حجاب، ثم يكشف عنه الحجاب ويقول: «ها هو ذا، فأبصر تجده على ما وصفت».
فإن قلت: إن الأنس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر، إنما يكون لزوال الرّيب والشكّ في الأكثر، أفتقول: إن التمثيل إنما أنس به، لأنه يصحّح المعنى المذكور والصفة السابقة، ويثبت أن كونها جائز ووجودها صحيح غير مستحيل، حتى لا يكون تمثيل إلا كذلك؟.
فالجواب: إن المعاني التي يجيء «التمثيل» في عقبها على ضربين:
غريب بديع يمكن أن يخالف فيه، ويدّعى امتناعه واستحالة وجوده، وذلك نحو قوله: [من الوافر]
فإن تفق الأنام وأنت منهم … فإنّ المسك بعض دم الغزال (?)
وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام وفاتهم إلى حدّ بطل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهة ومقاربة، بل صار كأنه أصل بنفسه وجنس برأسه. وهذا أمر غريب، وهو أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصّة به إلى أن يصير كأنه ليس من ذلك