والثاني: أن يؤخذ الشبه من الأشياء المحسوسة لمثلها، إلا أن الشّبه مع ذلك عقليّ.
والأصل الثالث: أن يؤخذ الشّبه من المعقول للمعقول.
فمثال ما جرى على (الأصل الأول) ما ذكرت لك من استعارة «النور» للبيان والحجّة، فهذا شبه أخذ من محسوس لمعقول، ألا ترى أن «النور» مشاهد محسوس بالبصر، والبيان والحجّة مما يؤدّيه إليك العقل من غير واسطة من
العين أو غيرها من الحواس. وذلك أن الشّبه ينصرف إلى المفهوم من الحروف والأصوات، ومدلول الألفاظ هو الذي ينوّر القلب لا الألفاظ. هذا و «النور» يستعار للعلم نفسه أيضا والإيمان، وكذلك حكم «الظلمة»، إذا استعيرت للشّبهة والجهل والكفر، لأنه لا شبهة في أن الشّبه والشكوك من المعقول، ووجه التشبيه أن القلب يحصل بالشبهة والجهل، في صفة البصر إذا قيّده دجى الليل فلم يجد منصرفا وإن استعيرت للضلالة والكفر، فلأنّ صاحبهما كمن يسعى في الظلمة فيذهب في غير الطريق، وربما دفع إلى هلك وتردّى في أهويّة.
ومن ذلك استعارة «القسطاس» للعدل ونحو ذلك من المعاني المعقولة التي تعطى غيرها صفة الاستقامة والسّداد، كما استعاره الجاحظ في فصل يذكر فيه علم الكلام، فقال: «هو العيار على كل صناعة»، والزّمام على كل عبارة، والقسطاس الذي به يستبان كل شيء ورجحانه والراووق الذي به يعرف صفاء كل شيء وكدره».
وهكذا إذا قيل في النّحو: «إنه ميزان الكلام ومعياره»، فهو أخذ شبه من شيء هو جسم يحسّ ويشاهد، لمعنى يعلم ويعقل ولا يدخل في الحاسّة، وذلك أظهر وأبين من أن يحتاج فيه إلى فضل بيان.
وأما تفنّنه وسعته وتصرّفه من مرضيّ ومسخوط، ومقبول ومرذول، فحقّ الكلام فيه بعد أن يقع الفراغ من تقرير الأصول.
ومثال (الأصل الثاني)، وهو أخذ الشّبه من المحسوس للمحسوس، ثم الشبه عقليّ، قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم وخضراء الدّمن» (?)، الشبه مأخوذ للمرأة من النبات