ومن خصائصها التي تذكر بها، وهي عنوان مناقبها، أنّها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدّة من الدّرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعا من الثّمر. وإذا تأمّلت أقسام الصّنعة التي بها يكون الكلام في حدّ البلاغة، ومعها يستحق وصف البراعة، وجدتها تفتقر إلى أن تعيرها حلاها، وتقصر عن أن تنازعها مداها وصادفتها نجوما هي بدرها، وروضا هي زهرها، وعرائس ما لم تعرها حليها فهي عواطل، وكواعب ما لم تحسّنها فليس لها في الحسن حظّ كامل.
فإنك لترى بها الجماد حيّا ناطقا، والأعجم فصيحا، والأجسام الخرس مبينة، والمعاني الخفيّة بادية جليّة، وإذا نظرت في أمر المقاييس وجدتها ولا ناصر لها أعزّ منها، ولا رونق لها ما لم تزنها، وتجد التشبيهات على الجملة غير معجبة ما لم تكنها. إن شئت أرتك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل، كأنها قد جسّمت حتى رأتها العيون، وإن شئت لطّفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلّا الظنون.
وهذه إشارات وتلويحات في بدائعها، وإنما ينجلي الغرض منها ويبين، إذا تكلّم على هذه التفاصيل، وأفرد كلّ فن بالتمثيل، وسترى ذلك إن شاء الله، وإليه الرغبة في أن توفّق للبلوغ إليه والتوفّر عليه.
وإذ قد عرّفتك أن لها هذا المجال الفسيح، والشّأو البعيد، فإني أضع لك فصلا، بعد فصل، وأجتهد بقدر الطاقة في الكشف والبحث.
فصل
وهذا فصل قسّمتها فيه قسمة عامية. ومعنى «العامية»، أنك لا تجد في هذه الاستعارة قسمة إلا أخصّ من هذه
القسمة، وأنها قسيمة الاستعارة من حيث المعقول المتعارف في طبقات الناس وأصناف اللغات، وما تجد وتسمع أبدا نظيره من عوامّ الناس كما تسمع من خواصهم.
اعلم أن كل لفظة دخلتها الاستعارة المفيدة، فإنها لا تخلو من أن تكون اسما أو فعلا، فإذا كانت اسما فإنه يقع مستعارا على قسمين:
أحدهما: أن تنقله عن مسمّاه الأصلي إلى شيء آخر ثابت معلوم فتجريه عليه، وتجعله متناولا له تناول الصفة مثلا للموصوف، وذلك قولك «رأيت أسدا» وأنت تعني «رجلا شجاعا» و «عنّت لنا ظبية» وأنت تعني امرأة و «أبديت نورا» وأنت