حجاب يحتاج إلى خرقه بالنظر، وعليه كمّ يفتقر إلى شقّه بالتفكير، وكان درّا في قعر بحر لا بدّ له من تكلّف الغوص عليه، وممتنعا في شاهق لا يناله إلّا بتجشّم الصعود إليه وكامنا كالنار في الزّند، لا يظهر حتى تقتدحه، ومشابكا لغيره كعروق الذهب التي لا تبدي صفحتها بالهوينا، بل تنال بالحفر عنها وتعريق الجبين في طلب التمكن منها.
نعم، إذا كان هذا شأنه، وهاهنا مكانه، وبهذا الشرط يكون إمكانه، فهو الذي يجوز أن يدّعى فيه الاختصاص والسّبق والتقدّم والأوّلية، وأن يجعل فيه سلف وخلف، ومفيد ومستفيد، وأن يقضى بين القائلين فيه بالتفاضل والتباين، وأنّ أحدهما فيه أكمل من الآخر، وأنّ الثاني زاد على الأوّل أو نقص عنه، وترقّى إلى غاية أبعد من غايته، أو انحطّ إلى منزلة هي دون منزلته.
واعلم أن ذلك الأوّل الذي هو المشترك العاميّ، والظاهر الجليّ، والذي قلت إنّ التفاضل لا يدخله، والتفاوت لا يصحّ فيه، إنما يكون كذلك ما كان صريحا ظاهرا لم تلحقه صنعة، وساذجا لم يعمل فيه نقش فأمّا إذا ركّب عليه معنى، ووصل به لطيفة، ودخل إليه من باب الكناية والتعريض، والرّمز والتلويح، فقد صار بما غيّر من طريقته، واستؤنف من صورته، واستجدّ له من المعرض، وكسي من دلّ التعرض، داخلا في قبيل الخاصّ الذي يتملّك بالفكرة والتعمّل، ويتوصّل إليه بالتدبّر والتأمّل. وذلك كقولهم، وهم يريدون التشبيه: «سلبن الظّباء العيون»، كقول بعض العرب (?): [من الوافر]
سلبن ظباء ذي نفر طلاها … ونجل الأعين البقر الصّوارا
وكقوله (?): [من البسيط]
إنّ السحاب لتستحيي إذا نظرت … إلى نداك، فقاسته بما فيها
وكقوله (?): [من الكامل]
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا … إلّا بوجه ليس فيه حياء