وكقوله (?): [من الكامل]
واهتزّ في ورق النّدى فتحيّرت … حركات غصن البانة المتأوّد
وكقوله (?): [من الطويل]
فأفضيت من قرب إلى ذي مهابة … أقابل بدر الأفق حين أقابله
إلى مسرف في الجود، لو أنّ حاتما … لديه، لأمسى حاتم وهو عاذله
فهذا كله في أصله ومغزاه وحقيقة معناه تشبيه، ولكن كنى لك عنه، وخودعت فيه، وأتيت به من طريق الخلابة في مسلك السحر ومذهب التّخييل، فصار لذلك غريب الشكل، بديع الفن، منيع الجانب، لا يدين لكل أحد، وأبيّ العطف لا يدين به إلّا للمرويّ المجتهد. وإذا حقّقت النظر، فالخصوص الذي تراه، والحالة التي تراها، تنفي الاشتراك وتأباه، إنما هما من أجل أنهم جعلوا التشبيه مدلولا عليه بأمر آخر ليس هو من قبيل الظاهر المعروف، بل هو في حدّ لحن القول والتعمية اللّذين يتعمّد فيهما إلى إخفاء المقصود حتى يصير المعلوم اضطرارا، يعرف امتحانا واختيارا، كقوله: [من الوافر]
مررت بباب هند فكلّمتني … فلا والله ما نطقت بحرف
فكما يوهمك بإتقان اللفظ أنه أراد الكلام، وأن الميم موصولة باللام، كذلك المشبّه إذا قال: «سرقن الظباء العيون»، فقد أوهم أن ثمّ سرقة وأنّ العيون منقولة إليها من الظباء، وإن كنت تعلم إذا نظرت أنّه يريد أن يقول: إن عيونها كعيون الظباء في الحسن والهيئة وفترة النظر. وكذلك يوهمك بقوله: «إن السحاب لتستحيي»، أن السحاب حيّ يعرف ويعقل، وأنه يقيس فيضه بفيض كفّ الممدوح فيخزى ويخجل.
فالاحتفال والصّنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخييلات التي تهزّ الممدوحين وتحرّكهم، وتفعل فعلا شبيها بما يقع في نفس النّاظر إلى التصاوير التي يشكّلها الحذّاق بالتّخطيط والنقش، أو بالنّحت والنقر. فكما أن تلك تعجب وتخلب، وتروق وتؤنق، وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة لم تكن قبل رؤيتها،
ويغشاها ضرب من الفتنة لا ينكر مكانه، ولا يخفى شأنه.