من البين، وزال عن الوهم والعين أحسن توصّل وألطفه، ويقام منه شبه الحجّة على أن لا تشبيه ولا مجاز، ومثال قوله (?): [من المنسرح]
لا تعجبوا من بلى غلالته … قد زرّ أزراره على القمر
قد عمد، كما ترى، إلى شيء هو خاصية في طبيعة القمر، وأمر غريب من تأثيره، ثم جعل يرى أن قوما أنكروا بلى الكتّان بسرعة، وأنه قد أخذ ينهاهم عن التعجّب من ذلك ويقول: «أما ترونه قد زرّ أزراره على القمر، والقمر من شأنه أن يسرع بلى الكتان»، وغرضه بهذا كله أن يعلم أن لا شكّ ولا مرية في أن المعاملة مع القمر نفسه، وأن الحديث عنه بعينه، وليس في البين شيء غيره، وأن التشبيه قد نسي وأنسي، وصار كما يقول الشيخ أبو عليّ
فيما يتعلق به الظرف: «إنّه شريعة منسوخة».
وهذا موضع في غاية اللّطف، لا يبين إلا إذا كان المتصفّح للكلام حسّاسا، يعرف وحي طبع الشعر، وخفيّ حركته التي هي كالخلس، وكمسرى النّفس في النّفس.
وإن أردت أن تظهر لك صحّة عزيمتهم في هذا النحو على إخفاء التشبيه ومحو صورته من الوهم، فأبرز صفة التّشبيه، واكشف عن وجهه، وقل: «لا تعجبوا من بلى غلالته، فقد زرّ أزراره على من حسنه حسن القمر»، ثم انظر هل ترى إلّا كلاما فاترا ومعنى نازلا، واخبر نفسك هل تجد ما كنت تجده من الأريحيّة؟ وانظر في أعين السامعين هل ترى ما كنت تراه من ترجمة عن المسرّة، ودلالة على الإعجاب؟ ومن أين ذلك وأنّى وأنت بإظهار التشبيه تبطل على نفسك ما له وضع البيت من الاحتجاج على وجوب البلى في الغلالة، والمنع من العجب فيه بتقرير الدّلالة؟
وقد قال آخر في هذا المعنى بعينه، إلّا أن لفظه لا ينبئ عن القوة التي لهذا البيت في دعوى القمر، وهو قوله: [من البسيط]
ترى الثّياب من الكتّان يلمحها … نور من البدر أحيانا فيبليها
فكيف تنكر أن تبلى معاجرها، … والبدر في كل وقت طالع فيها (?)