ومما ينظر إلى قوله: «قد زرّ أزراره على القمر»، في أنه بلغ بدعواه في المجاز حقيقة، مبلغ الاحتجاج به كما يحتجّ بالحقيقة، قول العبّاس بن الأحنف (?): [من المتقارب]

هي الشّمس مسكنها في السماء … فعزّ الفؤاد عزاء جميلا

فلن تستطيع إليها الصّعود … ولن تستطيع إليك النزولا

صورة هذا الكلام ونصبته والقالب الذي فيه أفرغ، يقتضي أن التشبيه لم يجر في خلده، وأنه معه كما يقال: «لست منه وليس منّي»، وأن الأمر في ذلك قد بلغ مبلغا لا حاجة معه إلى إقامة دليل وتصحيح دعوى، بل هو في الصّحّة والصدق بحيث تصحّح به دعوى ثابتة. ألا تراه كأنه يقول للنفس: «ما وجه الطمع في الوصول وقد علمت أن حديثك مع الشمس، ومسكن الشمس السماء؟» أفلا تراه قد جعل كونها الشّمس حجّة له على نفسه، يصرفها بها عن أن ترجو الوصول إليها، ويلجئها إلى العزاء، وردّها في ذلك إلى ما لا تشكّ فيه، وهو مستقرّ ثابت، كما تقول: «أو ما علمت ذلك؟» و «أليس قد علمت؟»، ويبيّن لك هذا التفسير والتقرير فضل بيان بأن تقابل هذا البيت بقول الآخر (?): [من الطويل]

فقلت لأصحابي: هي الشمس ضوؤها … قريب، ولكن في تناولها بعد

وتتأمّل أمر التشبيه فيه، فإنك تجده على خلاف ما وصفت لك. وذلك أنه في قوله: «فقلت لأصحابي هي الشمس»، غير قاصد أن يجعل كونها الشمس حجّة على ما ذكر بعد، من قرب شخصها ومثالها في العين، مع بعد منالها بل قال: «هي الشمس»، وهكذا قولا مرسلا يومئ فيه بل يفصح بالتشبيه، ولم يرد أن يقول: «لا تعجبوا أن تقرب وتبعد بعد أن علمتم أنها الشمس»، حتى كأنه يقول: «ما وجه شكّكم في ذلك؟»، ولم يشكّ عاقل في أن الشمس كذلك، كما أراد العباس أن يقول: كيف الطمع في الوصول إليها مع علمك بأنها الشمس، وأن الشمس مسكنها السماء. فبيت ابن أبي عيينة في أن لم ينصرف عن التشبيه جملة، ولم يبرز في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015