وذلك أنه علّل تصعّد الأنفاس من صدره بهذه العلة الغريبة، وترك ما هو المعلوم المشهور من السبب والعلة فيه، وهو التحسّر والتأسّف. والمعنى: رحل عنّي العزاء بارتحالي عنكم، أي: عنده ومعه أو به وبسببه، فكأنه لما كان محلّ الصبر الصّدر، وكانت الأنفاس تتصعّد منه أيضا، صار العزاء وتنفّس الصّعداء كأنهما نزيلان ورفيقان، فلما رحل ذاك، كان حقّ هذا أن يشيّعه قضاء لحق الصّحبة.

ومما يلاحظ هذا النوع، يجري في مسلكه وينتظم في سلكه، قول ابن المعتز (?):

[من المنسرح]

عاقبت عيني بالدّمع والسّهر … إذ غار قلبي عليك من بصري

واحتملت ذاك وهي رابحة … فيك، وفازت بلذّة النّظر

وذاك أن العادة في دمع العين وسهرها أن يكون السبب فيه إعراض الحبيب، أو اعتراض الرقيب، ونحو ذلك من الأسباب الموجبة للاكتئاب. وقد ترك ذلك كله كما ترى، وادّعى أن العلة ما ذكره من غيرة القلب منها على الحبيب وإيثاره أن يتفرّد برؤيته، وأنه بطاعة القلب وامتثال رسمه، رام للعين عقوبة، فجعل ذاك أن أبكاها، ومنعها النوم وحماها.

وله أيضا في عقوبة العين بالدّمع والسهر، من قصيدة أوّلها (?): [من الخفيف]

قل لأحلى العباد شكلا وقدّا … أبجدّ ذا الهجر أم ليس جدّا

ما بذا كانت المنى حدّثتني … لهف نفسي أراك قد خنت ودّا

ما ترى في متيّم بك صبّ … خاضع لا يرى من الذلّ بدّا

إن زنت عينه بغيرك فاضرب … ها بطول السهاد والدّمع حدّا

قد جعل البكاء والسهاد عقوبة على ذنب أثبته للعين، كما فعل في البيت الأول، إلا أنّ صورة الذنب هاهنا غير صورته هناك. فالذنب هاهنا نظرها إلى غير الحبيب، واستجازتها من ذلك ما هو محرّم محظور والذنب هناك نظرها إلى الحبيب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015