لا يذوق الإغفاء إلّا رجاء … أن يرى طيف مستميح رواحا
وكأنه شرط الرّواح على معنى أن العفاة والرّاجين إنّما يحضرونه في صدر النهار على عادة السلاطين. فإذا كان الرواح ونحوه من الأوقات التي ليست من أوقات الإذن قلّوا، فهو يشتاق إليهم فينام ليأنس برؤية طيفهم. والإفراط في التعمّق ربما أخلّ بالمعنى من حيث يراد تأكيده به، ألا ترى أن هذا الكلام قد يوهم أنه يحتجّ له أنه ممن لا يرغب كل واحد في أخذ عطائه، وأنه ليس في طبقة من قيل فيه: [من الطويل]
عطاؤك زين لامرئ إن أصبته … بخير، وما كلّ العطاء يزين
وممّا يدفع عنه الاعتراض ويوجب قلّة الاحتفال به، أن الشاعر يهمّه أبدا إثبات ممدوحه جوادا أو توّاقا إلى السّؤّال فرحا بهم، وأن يبرّئه من عبوس البخيل وقطوب المتكلّف في البذل، الذي يقاتل نفسه عن ماله حتى يقال: «جواد»، ومن يهوى الثّناء والثّراء معا، ولا يتمكّن في نفسه معنى قول أبي تمام: [من الطويل]
ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد … ولا المجد في كفّ امرئ والدراهم
فهو يسرع إلى استماع المدائح، ويبطئ عن صلة المادح. نعم، فإذا سلّم للشاعر هذا الغرض، لم يفكر في خطرات الظنون.
وقد يجوز شيء من الوهم الذي ذكرته على قول المتنبي: [من البسيط]
يعطي المبشّر بالقصّاد قبلهم … كمن يبشّره بالماء عطشانا
وهذا شيء عرض، ولاستقصائه موضع آخر، إن وفّق الله.
وأصل بيت «الطيف المستميح»، من نحو قوله: [من الطويل]
وإنّي لأستغشي وما بي نعسة … لعل خيالا منك يلقى خياليا
وهذا الأصل غير بعيد أن يكون أيضا من باب ما استؤنف له علّة غير معروفة، إلّا أنه لا يبلغ في القوة ذلك المبلغ في الغرابة والبعد من العادة، وذلك أنه قد يتصوّر أن يريد المغرم المتيّم، إذا بعد عهده بحبيبه، أن يراه في المنام، وإذا أراد ذلك جاز أن يريد النوم له خاصّة، فاعرفه.
ومما يلحق بهذا الفصل قوله (?): [من الكامل]
رحل العزاء برحلتي فكأنني … أتبعته الأنفاس للتشييع