قالت: كبرت وشبت! قلت لها: … هذا غبار وقائع الدّهر
ألا تراه أنكر أن يكون الذي بدا به شيبا، ورأى الاعتصام بالجحد أخصر طريقا إلى نفي العيب وقطع الخصومة، ولم يسلك الطريقة العامّية فيثبت المشيب، ثم يمنع العائب أن يعيب، ويريه الخطأ في عيبه به، ويلزمه المناقضة في
مذهبه، كنحو ما مضى، أعني كقول البحتري: «وبياض البازيّ».
وهكذا إذا تأوّلوا في الشيب أنه ليس بابيضاض الشعر الكائن في مجرى العادة وموضوع الخلقة، ولكنه نور العقل والأدب قد انتشر، وبان وجهه وظهر، كقول الطائي الكبير: [من البسيط]
ولا يروّعك إيماض القتير به … فإنّ ذاك ابتسام الرّأي والأدب
وينبغي أن تعلم أنّ باب التشبيهات قد حظي من هذه الطريقة بضرب من السّحر، لا تأتي الصفة على غرابته، ولا يبلغ البيان كنه ما ناله من اللّطف والظّرف، فإنه قد بلغ حدّا يرد المعروف في طباع الغزل، ويلهى الثّكلان من الثّكل، وينفث في عقد الوحشة، وينشد ما ضلّ عنك من المسرّة، ويشهد للشّعر بما يطيل لسانه في الفخر، ويبين جملة ما للبيان من القدرة والقدر.
فمن ذلك قول ابن الرومي: [من الكلام]
خجلت خدود الورد من تفضيله … خجلا تورّدها عليه شاهد
لم يخجل الورد المورّد لونه … إلّا وناحله الفضيلة عاند
للنرجس الفضل المبين وإن أبى … آب وحاد عن الطريقة حائد
فصل القضية أنّ هذا قائد … زهر الرياض وأنّ هذا طارد
شتّان بين اثنين: هذا موعد … بتسلّب الدّنيا، وهذا واعد (?)
ينهى النديم عن القبيح بلحظه، … وعلى المدامة والسماع مساعد
اطلب بعفوك في الملاح سميّه … أبدا، فإنك لا محالة واجد
والورد إن فكّرت فرد في اسمه … ما في الملاح له سميّ واحد