وهكذا قول المتنبي (?): [من الطويل]
ملامي النّوى في ظلمها غاية الظّلم … لعلّ بها مثل الّذي بي من السّقم
فلو لم تغر لم تزو عنّي لقاءكم … ولو لم تردكم لم تكن فيكم خصمي
الدعوى في إثبات الخصومة، وجعل النّوى كالشيء الذي يعقل ويميّز ويريد ويختار، وحديث الغيرة والمشاركة في هوى الحبيب، يثبت بثبوت ذلك من غير أن يفتقر منك إلى وضع واختراع.
ومما يلحق بالفنّ الذي بدأت به قوله: [من الطويل]
بنفسي ما يشكوه من راح طرفه … ونرجسه ممّا دهى حسنه ورد
أراقت دمي عمدا محاسن وجهه … فأضحى وفي عينيه آثاره تبدو
لأنه قد أتى لحمرة العين وهي عارض يعرض لها من حيث هي عين بعلّة يعلم أنها مخترعة موضوعة، فليس ثمّ
إراقة دم. وأصل هذا قول ابن المعتزّ: [من المنسرح]
قالوا اشتكت عينه فقلت لهم … من كثرة القتل نالها الوصب
حمرتها من دماء من قتلت … والدّم في النّصل شاهد عجب
وبين هذا الجنس وبين نحو: «الرّيح تحسدني»، فرق، وذلك أن لك هناك فعلا هو ثابت واجب في الريح، وهو ردّ الرداء على الوجه، ثم أحببت أن تتطرّف، فادّعيت لذلك الفعل علّة من عند نفسك. وأما هاهنا فنظرت إلى صفة موجودة، فتأوّلت فيها أنها صارت إلى العين من غيرها، وليست هي التي من شأنها أن تكون في العين، فليس معك هنا إلا معنى واحد، وأما هناك فمعك معنيان: أحدهما موجود معلوم، والآخر مدّعى موهوم، فاعرفه.
وممّا يشبه هذا الفنّ الذي هو تأوّل في الصفة فقط، من غير أن يكون معلول وعلّة، ما تراه من تأوّلهم في الأمراض والحمّيات أنها ليست بأمراض، ولكنها فطن ثاقبة وأذهان متوقّدة وعزمات، كقوله (?): [من الطويل]
وحوشيت أن تضرى بجسمك علّة … ألا إنّها تلك العزوم الثّواقب