وإذا كان هذا كذلك، بان منه أيضا أنّ لك مع لزوم الصدق، والثبوت على محض الحقّ، الميدان الفسيح والمجال الواسع، وأن ليس الأمر على ما ظنّه ناصر الإغراق والتخييل الخارج إلى أن يكون الخبر على خلاف المخبر، من أنه إنما يتّسع المقال ويفتنّ، وتكثر موارد الصنعة ويغزر ينبوعها، وتكثر أغصانها وتتشعّب فروعها، إذا بسط من عنان الدعوى، فادّعي ما لا يصحّ دعواه، وأثبت ما ينفيه العقل ويأباه.

وجملة الحديث أن الذي أريده بالتخييل هاهنا، ما يثبت فيه الشاعر أمرا هو غير ثابت أصلا، ويدّعي دعوى لا طريق إلى تحصيلها، ويقول قولا يخدع فيه نفسه ويريها ما لا ترى.

فأمّا الاستعارة، فإن سبيلها سبيل الكلام المحذوف، في أنك إذا رجعت إلى أصله، وجدت قائله وهو يبت أمرا عقليّا صحيحا، ويدّعي دعوى لها سنخ في العقل.

وستمرّ بك ضروب من «التخييل» هي أظهر أمرا في البعد عن الحقيقة، وأكشف وجها في أنه خداع للعقل، وضرب من التزويق، فتزداد استبانة للغرض بهذا الفصل، وأزيدك حينئذ إن شاء الله، كلاما في الفرق بين ما يدخل في حيّز قولهم: «خير الشعر أكذبه»، وبين ما لا يدخل فيه مما يشاركه في أنه اتّساع وتجوّز، فاعرفه.

وكيف دار الأمر، فإنهم لم يقولوا: «خير الشعر أكذبه»، وهم يريدون كلاما غفلا ساذجا يكذب فيه صاحبه ويفرط، نحو أن يصف الحارس بأوصاف الخليفة، ويقول للبائس المسكين: «إنّك أمير العراقين»، ولكن ما فيه صنعة يتعمّل لها، وتدقيق في المعاني يحتاج معه إلى فطنة لطيفة وفهم ثاقب وغوص شديد، والله الموافق للصواب.

وأعود إلى ما كنت فيه من الفصل بين المعنى الحقيقي وغير الحقيقي.

واعلم أن ما شأنه «التخييل»، أمره في عظم شجرته إذا تؤمّل نسبه، وعرفت شعوبه وشعبه، على ما أشرت إليه قبيل، لا يكاد تجيء فيه قسمة تستوعبه، وتفصيل يستغرقه، وإنما الطريق فيه أن يتّبع الشيء بعد الشيء ويجمع ما يحصره الاستقراء.

فالذي بدأت به من دعوى أصل وعلّة في حكم من الأحكام، هما كذلك ما تركت المضايقة، وأخذ بالمسامحة، ونظر إلى الظاهر، ولم ينقّر عن السرائر، وهو النمط العدل والنمرقة الوسطى، وهو شيء تراه كثيرا بالآداب والحكم البريئة من الكذب.

ومن الأمثلة فيه قول أبي تمام (?): [من الخفيف]

إنّ ريب الزمان يحسن أن يه … دي الرّزايا إلى ذوي الأحساب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015