من حيث هو شعر فضلا ونقصا، وانحطاطا وارتفاعا، بأن ينحل الوضيع صفة من الرفعة هو منها عار، أو يصف الشريف بنقص وعار، فكم جواد بخّله الشعر وبخيل سخّاه؛ وشجاع وسمه بالجبن وجبان ساوى به الليث؛ ودنيّ أوطأه قيّمة العيّوق، وغبيّ قضى له بالفهم، وطائش ادّعى له طبيعة الحكم، ثم لم يعتبر ذلك في الشعر نفسه حيث تنتقد دنانيره وتنشر ديابيجه، ويفتق مسكه فيضوع أريجه.

وأما من قال في معارضة هذا القول: «خير الشعر أصدقه»، كما قال: [من البسيط]

وإنّ أحسن بيت أنت قائله … بيت يقال إذا أنشدته صدقا (?)

فقد يجوز أن يراد به أن خير الشعر ما دلّ على حكمة يقبلها العقل، وأدب يجب به الفضل، وموعظة تروّض جماح الهوى وتبعث على التقوى، وتبيّن موضع القبح والحسن في الأفعال، وتفصل بين المحمود والمذموم من الخصال، وقد ينحى بها نحو الصدق في مدح الرجال، كما قيل: «كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه»، والأول أولى، لأنهما قولان يتعارضان في اختيار نوعي الشعر.

فمن قال: «خيره أصدقه» كان ترك الإغراق والمبالغة والتجوّز إلى التحقيق والتصحيح، واعتماد ما يجرى من العقل على أصل صحيح، أحبّ إليه وآثر عنده، إذ كان ثمره أحلى، وأثره أبقى، وفائدته أظهر، وحاصله أكثر، ومن قال: «أكذبه»، ذهب إلى أن الصنعة إنما تمدّ باعها، وتنشر شعاعها، ويتّسع ميدانها، وتتفرّع أفنانها، حيث يعتمد الاتّساع والتخييل، ويدّعى الحقيقة فيما أصله التقريب والتخيل وحيث يقصد التلطف والتأويل ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المدح والذمّ والوصف والنعت والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض، وهناك يجد الشاعر سبيلا إلى أن يبدع ويزيد، ويبدي في اختراع الصّور ويعيد، ويصادف مضطربا كيف شاء واسعا، ومددا من المعاني متتابعا، ويكون كالمغترف من عدّ لا ينقطع، والمستخرج من معدن لا ينتهي.

وأما القبيل الأول فهو فيه كالمقصور المدانى قيده، والذي لا تتّسع كيف شاء يده وأيده، ثم هو في الأكثر يسرد على السامعين معاني معروفة وصورا مشهورة، ويتصرّف في أصول هي وإن كانت شريفة، فإنها كالجواهر تحفظ أعدادها، ولا يرجى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015