وهكذا قوله: [من الكامل]
والصّارم المصقول أحسن حالة … يوم الوغى من صارم لم يصقل
احتجاج على فضيلة الشيب، وأنه أحسن منظرا من جهة التعلق باللون، وإشارة إلى أن السواد كالصدإ على صفحة السيف، فكما أن السيف إذا صقل وجلي وأزيل عنه الصّدأ ونقّي كان أبهى وأحسن، وأعجب إلى الرائي وفي عينه أزين، كذلك يجب أن يكون حكم الشعر في انجلاء صدأ السواد عنه، وظهور بياض الصّقال فيه، وقد ترك أن يفكّر فيما عدا ذلك من المعاني التي لها يكره الشيب، ويناط به العيب.
وعلى هذا موضوع الشعر والخطابة، أن يجعلوا اجتماع الشيئين في وصف علة لحكم يريدونه، وإن لم يكن كذلك في المعقول ومقتضيات العقول، ولا يؤخذ الشاعر بأن يصحّح كون ما جعله أصلا وعلّة كما ادّعاه فيما يبرم أو ينقض من قضيّة، وأن يأتي على ما صيّره قاعدة وأساسا بيّنة عقلية، بل تسلّم مقدّمته التي اعتمدها بيّنة، كتسليمنا
أنّ عائب الشيب لم ينكر منه إلّا لونه، وتناسينا سائر المعاني التي لها كره، ومن أجلها عيب.
وكذلك قول البحتري (?): [من المنسرح]
كلّفتمونا حدود منطقكم … في الشّعر يكفي عن صدقه كذبه
أراد كلّفتمونا أن نجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسنا فيه بالقول المحقّق، حتى لا ندّعي إلا ما يقول عليه من العقل برهان يقطع به، ويلجئ إلى موجبه. ولا شك أنه إلى هذا النحو قصد، وإيّاه عمد، إذ يبعد أن يريد بالكذب إعطاء الممدوح حظّا من الفضل والسّؤدد ليس له، ويبلّغه بالصفة حظّا من التعظيم ليس هو أهله، وأن يجاوز به من الإكثار محلّه، لأن هذا الكذب لا يبين بالحجج المنطقية، والقوانين العقلية، وإنما يكذّب فيه القائل بالرجوع إلى حال المذكور واختباره فيما وصف به، والكشف عن قدره وخسّته، ورفعته أو ضعته، ومعرفة محلّه ومرتبته.
وكذلك قول من قال: «خير الشعر أكذبه»، فهذا مراده، لأن الشعر لا يكتسب