وبياض البازيّ أصدق حسنا … إن تأمّلت من سواد الغراب (?)
وليس إذا كان البياض في البازي آنق في العين وأخلق بالحسن من السواد في الغراب، وجب لذلك أن لا يذمّ الشيب ولا تنفر منه طباع ذوي الألباب، لأنه ليس الذنب كلّه لتحوّل الصّبغ وتبدّل اللون، ولا أتت الغواني ما أتت من الصدّ والإعراض لمجرّد البياض، فإنهن يرينه في قباطيّ مصر فيأنسن، وفي أنوار الرّوض وأوراق النرجس الغضّ فلا يعبسن، فما أنكرن ابيضاض شعر الفتى لنفس اللون وذاته، بل لذهاب بهجاته، وإدباره في حياته. وإنك لترى الصّفرة الخالصة في أوراق الأشجار المتناثرة عند الخريف وإقبال الشتاء وهبوب الشّمال، فتكرهها وتنفر منها، وتراها بعينها في إقبال الربيع في الزّهر المتفتّق، وفيما ينشئه ويشيه من الديباج المؤنق، فتجد نفسك على
خلاف تلك القضيّة، وتمتلئ من الأريحيّة، ذاك لأنك رأيت اللون حيث النماء والزيادة، والحياة المستفادة، وحيث أبشرت أرواح الرياحين، وبشّرت أنواع التحاسين، ورأيته في الوقت الآخر حين ولّت السعود، واقشعرّ العود، وذهبت البشاشة والبشر، وجاء العبوس والعسر.
هذا، ولو عدم البازي فضيلة أنه جارح، وأنه من عتيق الطير، لم تجد لبياضه الحسن الذي تراه، ولم يكن للمحتجّ به على من ينكر الشيب ويذمّه ما تراه من الاستظهار، كما أنه لولا ما يهدي إليك المسك من ريّاه التي تتطلع إلها الأرواح، وتهشّ لها النفوس وترتاح، ولضعفت حجّة المتعلق به في تفضيل الشّباب. وكما لم تكن العلّة في كراهة الشيب بياضه، ولم يكن هو الذي غضّ عنه الأبصار، ومنحه العيب والإنكار، كذلك لم يحسن سواد الشعر في العيون لكونه سوادا فقط، بل لأنك رأيت رونق الشباب ونضارته، وبهجته وطلاوته ورأيت بريقه وبصيصه يعدانك الإقبال، ويريانك الاقتبال، ويحضرانك الثقة بالبقاء، ويبعدان عنك الخوف من الغناء. وإنّك لترى الرّجل وقد طعن في السنّ وشعره لم يبيضّ، وشيبه لم ينقضّ، ولكنه على ذاك قد عدم إبهاجه الذي كان، وعاد لا يزين كما زان، وظهر فيه من الكمود والجمود، ما يريكه غير محمود.