ولا يحاط به تقسيما وتبويبا. ثم إنه يجيء طبقات، ويأتي على درجات، فمنه ما يجيء مصنوعا قد تلطّف فيه، واستعين عليه بالرفق والحذق، حتى أعطي شبها من الحقّ، وغشي رونقا من الصّدق، باحتجاج تمحّل، وقياس تصنّع فيه وتعمّل، ومثاله قول أبي تمام: [من الكامل]
لا تنكري عطل الكريم من الغنى … فالسّيل حرب للمكان العالي (?)
فهذا قد خيّل إلى السامع أن الكريم إذا كان موصوفا بالعلوّ، والرّفعة في قدره، وكان الغنى كالغيث في حاجة الخلق
إليه وعظم نفعه، وجب بالقياس أن يزلّ عن الكريم، زليل السّيل عن الطّود العظيم. ومعلوم أنه قياس تخييل وإيهام، لا تحصيل وإحكام، فالعلّة في أن السيل لا يستقرّ على الأمكنة العالية، أن الماء سيّال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانب تدفعه عن الانصباب، وتمنعه عن الانسياب، وليس في الكريم والمال، شيء من هذه الخلال.
وأقوى من هذا في أن يظنّ حقّا وصدقا، وهو على التخيّل قوله: [من البسيط]
الشيب كره، وكره أن يفارقني … أعجب بشيء على البغضاء مودود (?)
هو من حيث الظاهر صدق وحقيقة، لأن الإنسان لا يعجبه أن يدركه الشيب، فإذا هو أدركه كره أن يفارقه، فتراه لذلك ينكره ويتكرّهه على إرادته أن يدوم له، إلا أنك إذا رجعت إلى التحقيق، كانت الكراهة والبغضاء لاحقة للشيب على الحقيقة، فأما كونه مرادا ومودودا، فمتخيّل فيه، وليس بالحقّ والصدق، بل المودود الحياة والبقاء، إلا أنه لما كانت العادة جارية بأنّ في زوال رؤية الإنسان للشيب، زواله عن الدنيا وخروجه منها، وكان العيش فيها محبّبا إلى النفوس، صارت محبّته لما لا يبقى له حتى يبقى الشيب، كأنّها محبّة للشيب.
ومن ذلك صنيعهم إذا أرادوا تفضيل شيء أو نقصه، أو مدحه أو ذمّه، فتعلّقوا ببعض ما يشاركه في أوصاف ليست هي سبب الفضيلة والنقيصة، وظواهر أمور لا تصحّح ما قصدوه من التهجين والتزيين على الحقيقة، كما تراه في باب الشيب والشباب، كقول البحتري: [من الخفيف]