فإن أردت أن تعرف مثالا فيما ذكرت لك، من أن العارفين بجواهر الكلام لا يعرّجون على هذا الفنّ إلا بعد الثقة بسلامة المعنى وصحّته، وإلا حيث يأمنون جناية منه عليه، وانتقاصا له وتعويقا دونه، فانظر إلى خطب الجاحظ في أوائل كتبه هذا- والخطب من شأنها أن يعتمد فيها الأوزان والأسجاع، فإنها تروى وتتناقل تناقل الأشعار، ومحلّها محلّ النسيب والتشبيب (?) من الشعر الذي هو كأنه لا يراد منه إلّا الاحتفال في الصنعة، والدّلالة على مقدار شوط القريحة (?)، والإخبار عن فضل القوة، والاقتدار على التفنّن في الصنعة- قال في أول كتاب الحيوان:
«جنّبك الله الشّبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة سببا، وبين الصدق نسبا، وحبّب إليك التثبّت، وزيّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عزّ الحق، وأودع صدرك برد اليقين وطرد عنك ذلّ اليأس، وعرّفك ما في الباطل من الذلّة، وما في الجهل من القلّة».
فقد ترك أوّلا أن يوفّق بين «الشبهة» و «الحيرة» في الإعراب، ولم ير أن يقرن «الخلاف» إلى «الإنصاف»، ويشفع «الحق» «بالصدق»، ولم يعن بأن يطلب «لليأس» قرينة تصل جناحه، وشيئا يكون رديفا له، لأنه رأى التوفيق بين المعاني أحقّ، والموازنة فيها أحسن، ورأى العناية بها حتى تكون إخوة من أب وأمّ؛ ويذرها على ذلك تتّفق
بالوداد، على حسب اتّفاقها بالميلاد، أولى من أن يدعها، لنصرة السجع وطلب الوزن، أولاد علّة (?)، عسى أن لا يوجد بينها وفاق إلا في الظواهر، فأما أن يتعدّى ذلك إلى الضمائر، ويخلص إلى العقائد والسّرائر، ففي الأقلّ النادر.
وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيسا مقبولا، ولا سجعا حسنا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق نحوه، وحتى تجده لا تبتغي به بدلا، ولا تجد عنه حولا، ومن هاهنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه، وأحقّه بالحسن وأولاه، ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه، وتأهّب لطلبه، أو ما هو- لحسن ملاءمته، وإن كان مطلوبا- بهذه المنزلة وفي هذه الصورة، وذلك كما يمثّلون به أبدا من قول الشافعي رحمه الله تعالى وقد سئل عن النّبيذ فقال: «أجمع