حتى ترى حاجتهما إلى التأمّل على مقدار واحد، وحتى لا يحوج أحدهما من الرجوع إلى النفس وبحثها عن الصور التي تعرفها، إلا إلى مثل ما يحوج إليه الآخر أسرفت في المجازفة، ونفضت يدا بالصّواب والتحقيق.
والعبرة الثانية: أن ما يقتضي كون الشيء على الذّكر وثبوت صورته في النفس، أن يكثر دورانه على العيون، ويدوم تردّده في مواقع الأبصار، وأن تدركه الحواسّ في كل وقت أو في أغلب الأوقات وبالعكس، وهو أنّ من سبب بعد ذلك الشيء عن أن يقع ذكره بالخاطر، وتعرض صورته في النفس، قلّة رؤيته، وأنه مما يحسّ بالفينة بعد الفينة، وفي الفرط بعد الفرط، وعلى طريق النّدرة، وذلك أن العيون هي التي تحفظ صور الأشياء على النفوس، وتجدّد عهدها بها، وتحرسها من أن تدثر، وتمنعها أن تزول، ولذلك قالوا: «من غاب عن العين فقد غاب عن القلب»،
وعلى هذا المعنى كانت المدارسة والمناظرة في العلوم وكرورها على الأسماع، سبب سلامتها من النّسيان، والمانع لها من التفلّت والذّهاب.
وإذا كان هذا أمرا لا يشكّ فيه، بان منه أنّ كل شبه رجع إلى وصف أو صورة أو هيئة من شأنها أن ترى وتبصر أبدا، فالتشبيه المعقود عليه نازل مبتذل، وما كان بالضدّ من هذا وفي الغاية القصوى من مخالفته، فالتشبيه المردود إليه غريب نادر بديع، ثم تتفاضل التشبيهات التي تجيء واسطة لهذين الطّرفين، بحسن حالها منهما، فما كان منها إلى الطّرف الأول أقرب، فهو أدنى وأنزل، وما كان إلى الطّرف الثاني أذهب، فهو أعلى وأفضل، وبوصف الغريب أجدر.
واعلم أن قولنا: «التفصيل» عبارة جامعة، ومحصولها على الجملة أنّ معك وصفين أو أوصافا، فأنت تنظر فيها واحدا واحدا، وتفصل بالتأمّل بعضها من بعض وأنّ بك في الجملة حاجة إلى أن تنظر في أكثر من شيء واحد، وأن تنظر في الشيء الواحد إلى أكثر من جهة واحدة. ثم إنه يقع في أوجه:
أحدها: وهو الأولى والأحقّ بهذه العبارة: أن تفصّل، بأن تأخذ بعضا وتدع بعضا، كما فعل في اللهب حين عزل الدخان عن السّنا وجرّده، وكما فعل الآخر حين فصل الحدق عن الجفون، وأثبتها مفردة فيما شبّه، وذلك قوله: [من الطويل] لها حدق لم تتّصل بجفون (?)