ثانية، ما لم تتبيّنه بالسماع الأول، وتدرك من تفصيل طعم المذوق بأن تعيده إلى اللّسان ما لم تعرفه في الذّوقة الأولى، وبإدراك التّفصيل يقع التفاضل بين راء وراء، وسامع وسامع، وهكذا، فأمّا الجمل فتستوي فيها الأقدام. ثمّ تعلم أنّك في إدراك تفصيل ما تراه وتسمعه أو تذوقه، كمن ينتقي الشيء من بين جملة، وكمن يميّز الشيء مما قد اختلط به، فإنك حين لا يهمّك التفصيل، كمن يأخذ الشيء جزافا وجرفا.

وإذا كانت هذه العبرة ثابتة في المشاهدة وما يجري مجراها مما تناله الحاسّة، فالأمر في القلب كذلك: تجد الجمل أبدا هي التي تسبق إلى الأوهام وتقع في الخاطر أوّلا، وتجد التفاصيل مغمورة فيما بينها، وتراها لا تحضر إلا بعد إعمال للرؤية واستعانة بالتذكّر.

ويتفاوت الحال في الحاجة إلى الفكر بحسب مكان الوصف ومرتبته من حدّ الجملة وحدّ التفصيل، وكلّما كان أوغل في التفصيل، كانت الحاجة إلى التوقّف والتذكّر أكثر، والفقر إلى التأمّل والتمهّل أشدّ.

وإذ قد عرفت هذه العبرة، فالاشتراك في الصفة إذا كان من جهة الجملة على الإطلاق، بحيث لا يشوبه شيء من

التفصيل نحو أن كلا الشيئين أسود أو أحمر فهو يقلّ عن أن تحتاج فيه إلى قياس وتشبيه. فإن دخل في التفصيل شيئا نحو: أن هذا السواد صاف برّاق، والحمرة رقيقة ناصعة احتجت بقدر ذلك إلى إدارة الفكر. وذلك مثل تشبيه حمرة الخدّ بحمرة التفّاح والورد، فإن زاد تفصيله بخصوص تدقّ العبارة عنه، ويتعرّف بفضل تأمّل، ازداد الأمر قوّة في اقتضاء الفكر، وذلك نحو تشبيه سقط النار بعين الديك في قوله: [من الطويل] وسقط كعين الدّيك عاورت صحبتي (?) وذلك أنّ ما في لون عينه من تفصيل وخصوص، يزيد على كون الحمرة رقيقة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015