جودة طبعه وحدّة خاطره، وعلوّ مصعده وبعد غوصه، إذا لم يفسده بسوء العبارة، ولم يخطئه التوفيق في تلخيص الدلالة، وكشف تمام الكشف عن سرر المعنى وسرّه بحسن البيان وسحره.
مثال ما كان من الشعر بهذه الصّفة قول أبي العتاهية (?): [من الكامل]
جزي البخيل عليّ صالحة … عنّي، بخفّته على ظهري
أعلى وأكرم عن يديه يدي … فعلت، ونزّه قدره قدري
ورزقت من جدواه عافية … أن لا يضيق بشكره صدري
وغنيت خلوا من تفضّله … أحنو عليه بأحسن العذر
ما فاتني خير امرئ وضعت … عنّي يداه مئونة الشّكر
ومن اللطيف مما يشبه هذا قول الآخر (?): [من المنسرح]
أعتقني سوء ما صنعت من ال … رقّ، فيا بردها على كبدي
فصرت عبدا للسّوء فيك، وما … أحسن سوء قبلي إلى أحد
اعلم أن معرفة الشيء من طريق الجملة، غير معرفته من طريق التفصيل. فنحن وإن كنّا لا يشكل علينا الفرق بين
التشبيه الغريب وغير الغريب إذا سمعنا بهما، فإنّ لوضع القوانين وبيان التّقسيم في كل شيء، وتهيئة العبارة في الفروق، فائدة لا ينكرها المميز، ولا يخفى أن ذلك أتمّ للغرض وأشفى للنفس.
والمعنى الجامع في سبب الغرابة أن يكون الشّبه المقصود من الشيء مما لا يتسرّع إليه الخاطر، ولا يقع في الوهم عند بديهة النظر إلى نظيره الذي يشبّه به، بل بعد تثبّت وتذكر وفلي للنفس عن الصور التي تعرفها، وتحريك للوهم في استعراض ذلك واستحضار ما غاب منه.