فلمّا بلغ إلى قوله:
تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه رحمته، وقلت: قد وقع! ما عساه يقول وهو أعرابيّ جلف جاف؟ فلما قال:
قلم أصاب من الدّواة مدادها استحالت الرّحمة حسدا» فهل كانت الرحمة في الأولى، والحسد في الثانية، إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أوّل الفكر وبديهة الخاطر، وفي القريب من محلّ الظنّ شبه، وحين أتمّ التشبيه وأدّاه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد موصوف، وعثر على خبيء مكانه غير معروف؟.
وعلى ذلك استحسنوا قول الخليل في انقباض كفّ البخيل (?): [من المتقارب]
كفاك لم تخلقا للنّدى … ولم يك بخلهما بدعه
فكفّ عن الخير مقبوضة … كما نقضت مائة سبعه
وكفّ ثلاثة آلافها … وتسع مئيها لها شرعه
وذلك أنه أراك شكلا واحدا في اليدين، مع اختلاف العددين، ومع اختلاف المرتبتين في العدد أيضا، لأن أحدهما من مرتبة العشرات والآحاد، والآخر من مرتبة المئين والألوف، فلما حصل الاتفاق كأشدّ ما يكون في شكل اليد
مع الاختلاف، كأبلغ ما يوجد في المقدار والمرتبة من العدد، كان التشبيه بديعا. قال المرزباني:
«وهذا ما أبدع فيه الخليل، لأنه وصف انقباض اليدين بحالين من الحساب مختلفين في العدد، متشاكلين في الصورة»، وقوله هذا إجمال ما فصّلته.
ومما ينظر إلى هذا الفصل ويداخله ويرجع إليه حين تحصيله، الجنس الذي يراد فيه كون الشيء من الأفعال سببا لضدّه، كقولنا: «أحسن من حيث قصد الإساءة» و «نفع من حيث أراد الضّرّ»، إذ لم يقنع المتشاغل بالعبارة الظاهرة والطريقة المعروفة، وصوّر في نفس الإساءة الإحسان، وفي البخل الجود، وفي المنع العطاء، وفي موجب الذمّ موجب الحمد، وفي الحالة التي حقّها أن تعدّ على الرجل حكم ما يعتدّ له، والفعل الذي هو بصفة ما يعاب وينكر، صفة ما يقبل المنّة ويشكر، فيدلّ ذلك بما يكون فيه من الوفاق الحسن مع الخلاف البيّن، على حذق شاعره، وعلى