وصورته الخاصة فلاَ، لأن المتنبي لم ينكر أنه ما يجده الممدوح حُمَّى كما أنكره الآخر، ولكنّه كأنه سأل نفسه كيف اجترأت الحمَّى على الممدوح، مع جلالته وهيبته، أم كيف جَاز أن يقصد شيءٌ إلى أذاه مع كَرَمه ونُبله، وأن المحبّة من النفوس مقصورة عليه؟ فتحمَّلَ لذلك جواباً، ووضع للحُمَّى فيما فعلته من الأذى عُذْراً، وهو تصريحُ ما اقتصر فيه على التعجُّب في قوله:
أيَدْري مَا أَرابَك مَن يُريبُ ... وَهلْ تَرْقَى إلى الفَلك الخطوبُ
وجسمُك فَوْق هِمَّةِ كُلِّ داءٍ ... فقُرْبُ أقلِّها منه عجيبُ
إلا أن ذلك الإيهام أحسن من هذا البيان، وذلك التعجُّبُ موقوفاً غيرَ مجاب، أولَى بالإعجاب، وليس كل زيادة تُفلح، وكل استقصاء يَمْلُح. ومن واضح هذا النوع وجيّده قولُ ابن المعتزّ:
صدَّت شُرَيْرُ وأزمعت هَجْرِي ... وَصَغَت ضَمائرُها إلى الغَدْرِ
قالت كَبِرتَ وشِبتَ قلتُ لها ... هذا غُبارُ وَقَائعِ الدَّهْرِ
ألا تراه أنكر أن يكون الذي بدا به شيباً، ورأى الاعتصام بالجَحْد أخصَر طريقاً إلى نَفْي العيب وقطع الخصومة، ولم يسلك الطريقة العامّية فيُثبِتَ المشيب، ثم يمنَع العائب أن يعيب، ويُريَه الخطأ في عَيْبه به، ويُلزِمَه المناقضةَ في مذهبه، كنحو ما مضى، أعني كقول البحتري: وبياضُ البازيّ.