وإذ قد ثبت هذا الأصل، فاعلم أن هاهنا أصلاً آخر يُبنَى عليه، وهو أن الاستعارة وإن كانت تعتمد التشبيه والتمثيلَ وكان التشبيهُ يقتضي شيئين مشبَّهاً ومشبَّهاً به، وكذلك التمثيل، لأنه كما عرفت تشبيهٌ إلا أنه عقليٌّ فإن الاستعارة من شأنها أن تُسقِطَ ذكرَ المشبَّه من البَيْنِ وتطرحه، وتدَّعَي له الاسمَ الموضوعَ للمشبَّه به، كما مضى من قولك: رأيت أسداً، تريد رجلاً شجاعاً ووردتُ بحراً زاخراً، تريد رجلاً كثير الجُود فائضَ الكفّ وأبديتُ نوراً، تريد علماً وما شاكل ذلك، فاسم الَّذِي هو المشبَّه غير مذكورٍ بوجه من الوجوه كما ترى، وقد نقلتَ الحديثَ إلى اسم المشبَّه به، لقَصْدك أن تبالغ، فتضع اللَّفظ بحيث يُخيّل أنَّ معك نَفْس الأسد والبحر والنور، كي تُقوِّي أمر المشابهة وتشدّده، ويكون لها هذا الصنيع حيث يقع الاسم المستعار فاعلاً أو مفعولاً أو مجروراً بحرف الجرّ أو مضافاً إليه، فالفاعل كقولك: بدا لي أسدٌ وانبرى لي لَيْثٌ وبدا نُورٌ وظهرت شمسٌ ساطعة وفاض لي بالمواهبِ بحرٌ، كقوله:
وَفِي الجِيرة الغَادِين من بَطن وَجْرةٍ ... غزالٌ كَحِيلُ المُقلتَيْن رَبِيبُ
والمفعولُ كما ذكرت من قولك: رأيت أسداً، والمجرور نحو قولك لا عَارَ إن فَرّ من أَسدٍ يَزْأَر، والمضاف إليه كقوله:
يَا ابن الكواكب من أَئِمّة هاشمٍ ... والرُجَّحِ الأَحسابِ والأَحْلامِ