لم يكن كذلك من أصله، وأن هذا الابتذال أتاه بعد أن قَضَى زماناً بطراءة الشباب وجِدّة الفتاء وبعزّة المنيع، ولو قد مَنَعك جانبه وطوى عنك نفسَهُ، لعرفتَ كيف يَشُقُّ مطلَبهُ ويصعُب تناوله، ومثلُ هذا وأظهر منه أمراً أنَّ قولنا أمّا بَعْدُ، منسوبٍ في الأصل إلى واحد بعينه، وإن كان الآن في البذْلة كقولنا هذا بعد ذاك، مثلاً، وهكذا الحلم في الطرق التي ابتدأها الأوَّلون، والعبارات التي لخّصها المتقدمون، والقوانين التي وَضعوها حتى صارت في الاشتراك كالشيء المشترَك من أوَّله، والمبتذَلِ الذي لم يكن الصَّوْنُ من شأنه، والمبذول الذي لم يعترض دونه المنع في شيء من زمانه، ورُبّ نفيس جُلب إليك من الأمكنة الشاسعة، ورُكِبَ فيه النَّوَى الشَطُون، وقُطِعَ به عرضُ الفيافي، ثم أخفَى عنك فَضْلَه حتى جَهِلتَ قدره أنْ سهُل مرامُه، واتسع وجوده، ولو انقطع مَدَده عنك حتى تحتاج إلى طلبه من مظِنَّته، لعلمت إحسان الجائي به إليك، والجالبِ المقرِّب نَيلَه عليك، ولأكثرتَ من شكره بعد أن أقللت، وأخذتَ نفسك بتَلاَفي ما أهملت، وكذلك رُبّ شيء نال فوق ما يستحقّه من شَغف النفوس به، وأكثرَ مما توجبه المنافع الراجعة إليه، لأنه لا يتسع اتِّساعَ الأوَّل الذي فوائده أعمُّ وأكثرُ، ووجودُ العِوَض عنه عند الفقد أعسر، فَكَسَبَتْ عِزَّْةُ الوجود هذا عِزّاً لم يستحقَّه بفضله، كما منعتْ سَعَتُه الآخرَ فضلاً هو ثابت له في أصله،