اسرار البلاغه (صفحة 190)

ويتصل بهذا الموضع حديث عبد الرحمن بن حسّان، وذلك أنه رجع إلى أبيه حسَّان وهو صبيّ، يبكي ويقول لَسَعَني طائر، فقال حسان: صِفْهُ يا بُنيَّ، فقال كأنه مُلْتَفٌّ في بُرْدَىْ حِبرَة، وكان لسعَهُ زُنْبُور، فقال حسّان قال ابنِي الشِّعر وربِّ الكعبة أفلا تراه جَعل هذا التشبيه مما يُستدَلُّ به على مقدار قُوّة الطبعِ، ويُجْعَل عِياراً في الفَرْق بين الذهن المستعدّ للشعر وغير المستعدّ له، وسَرَّه ذلك من ابنه كما سرّه نفس الشعر حين قال في وقت آخر:

اللهُ يَعْلَمُ أنِّي كنتُ مُنْتَبِذاً ... في دار حَسّانَ أَصْطَادُ اليَعَاسِيبا

فإن قلت إن التشبيه يُتصوَّر في مكان الصِّبْغ والنَّقْش العجيب، ولم يَعْجِب حسّانَ هذا وإنما أعجبه قولُه ملتفّ، وحُسنُ هذه العبارة، إذ لو قال: طائر فيه كوَشْي الحبرة، لم يكن له هذا الموقع، فهو أن يكون مشبهاً ما أنت فيه، فمن حيث دِلالته على الفطنة في الجملة، قيل مُسلَّمٌ لك أن نكتة الحسن في قوله ملتفّ، ولكن لا يسلَّم أنه خارج من الغَرَض، بل هو عينُ المراد من التَّشبيه وتمامُه فيه، وذلك أنه يفيد الهيئةَ الخاصّة في ذلك الوشي والصِّبغ وصورةَ الزنبور في اكتسائه لهما، ويُؤَدَى الشبه كما مضى من طريق التفصيل دون الجملة، فما ظننتَ أنّه يُبعده عما نحن بصدده، هو الذي يُدنيه منه، ولقد نفيتَ العيبَ من حيث أردت إثباته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015