" تأسست دولة الاسلام وفتحت فارس وبلاد الروم والشام ونقلت الى عاصمة الإسلام ـ المدينة المنورة ـ كنوز كسرى وقيصر وانصبت عليها خيرات المملكتين العظيمتين وانهال على رجالها من أموال هاتين الدولتين وطرفها وزخارفها ما لم يدر قط بخلدهم وقد انقضى على إسلامهم ربع قرن وهم فى شدة وجهد من العيش وفى خشونة المطعم وخشونة الملبس لا يجدون من الطعام إلا ما يقيم صلبهم ولا من اللباس إلا ما يقيهم من البرد والحر فإذا بهم اليوم يتحكمون فى أموال الأباطرة والآكاسرة فإذا أراد الواحد منهم أن يلبس تاج كسرى وينام على بساط قيصر لفعل لقد كانت والله هذه محنة عظيمة تزول فيها الجبال الراسيات وتطير لها القلوب من جوانحها وتعمش العيون ولكنهم سرعان ما فطنوا أنهم ما وقفوا بين الفقر والغنى فحسب بل إنهم خيروا بين أن يتنازلوا عن دعوتهم وإمامتهم ومبادئهم وينفضوا منها يدهم فلا يطمعوا فيها أبدا وبين أن يحافظوا على روح هذه الدعوة النبوية وعلى سيرة رجالها اللائقة بخلفاء النبياء والمرسلين وحملة الدعوة المؤمنين المخلصين.

كان لهم أن يؤسسوا ملكا عربيا عظيما على أنقاض الدولة الرومية والفارسية وينعموا كما نعم ملوكها وأمراؤها من قبل فقد ورثوا امبراطوريتين: الفارسية والرومانية وجمعوا بين موارد دولتين فإذا كان كسرى يترفه بموارد فارس فقط وإذا كان هرقل يبذخ بموارد الروم فقط فهذا عمر بن الخطاب يمكنه أن يترفه بموارد الإمبراطوريتين ويبذخ بذخالم يبذخه أحدهما.

كان له ولأصحابه كل ذلك بكل سهولة ولكنهم سمعوا القرآن يقول: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} [القصص:83] وكأنهم يسمعون نبيهم صلى الله عليه وسلم يقول قبل وفاته: " لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم " فهتفوا عن آخرهم قائلين: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة ".

وهكذا حافظوا على روح الدعوة الإسلامية وسيرة الأنبياء والمرسلين وعاشوا فى الحكومة كرجال الدعوة وفى الدنيا كرجال الآخرة وملكوا أنفسهم فى هذا التيار الجارف الذى سال قبلهم بالمدنيات والحكومات والشعوب والأمم وسال بالمبادىء والآخلاق والعلوم والحكم.

مازال الناس يعدون اقتحام المسلمين دجلة بخيلهم وجندهم ـ تحت قيادة سعد بن أبى وقاص ووصولهم الى الشط الثانى من غير أن يصابوا فى نفس أو مال أو متاع ـ حادثا غريبا من أغرب ما وقع فى التاريخ إن الحادث لغريب ولكن أشد منه غرابة وأدعى للعجب أن المسلمين فى عهد الخلافة الراشدة وعصر الفتوح الإسلامية الأولى خاضوا فى بحر مدنية الروم وفارس وهو هائج مائج وعبروه ولم يفقدوا شيئا من أخلاقهم ومبادئهم وعاداتهم ووصلوا الى الشط الثانى ولم تبتل ثيابهم ولم يزل الخلفاء الراشدون وأمراء الدولة الإسلامية من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم محتفظين بروحهم ونفسيتهم وزهدهم وبساطتهم فى المعيشة وتخشنهم فى أوج الفتوح الإسلامية.

التجرد للدعوة والتفرغ لها بالقلب والقالب والنفس والنفيس والوقت والقوة

4ـ ومن مزايا الأنبياء والدعاة الى الله التجرد للدعوة والتفرغ لها بالقلب والقالب والنفس والنفيس والوقت والقوة فمن شأنهم أنهم يركزون جهودهم ومواهبهم ويوفرون أوقاتهم وقواهم لهذه الدعوة ونشرها والجهاد فى سبيلها ويعطونها كلهم ولا يضنون عليها بشىء مما عندهم ولا يحتفظون بشىء ولا يؤثرون عليها شيئا لا وطنا ولا أهلا ولا عشيرة ولا هوى ولا مالا حتى تثمر جهودهم وقد لا تثمر فى الدنيا وقد تثمر بعد حياتهم فهذا هو النبى صلى الله عليه وسلم يخاطب بقوله تعالى: {وإما نرينكك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون} [يونس: 46] فهذا إذا كان شأن الدعوة بعد ما أعطاها الأنبياء كل ما عندهم فكيف بها إذا أعطيناها بعض ما عندنا وكانت الدعوة تملك عليهم عقولهم ومشاعرهم وتملك عليهم تفكيرهم وصحتهم فمازال القرآن يسلى النبى صلى الله عليه وسلم ويقول له: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} [الكهف:6] .

وتظهر فى أخلاقهم وعبادتهم فترق قلوبهم وتخشع نفوسهم وتزداد رغبتهم فى العبادة

5 ـ ومن مزايا الأنبياء عليهم السلام ومن كان على طريقهم فى الدعوة الى الله أن هذه الدعوة إلى الله وإلى الدار الآخرة تسرى فى حياتهم كما يسرى الماء فى عروق الشجر والكهرباء فى الأسلاك وتظهر فى أخلاقهم وعبادتهم فترق قلوبهم وتخشع نفوسهم وتزداد رغبتهم فى العبادة ويشتد اهتمامهم بها وحرصهم عليها وإيفاؤهم لحقوقها فعن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه قال قام النبى صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: أفلا أكون عبدا شكورا " (1) . وعن عائشة رضى الله عنها قالت: قام النبى صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة والآية {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}

طور بواسطة نورين ميديا © 2015