" بعث محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الناس الى الأسلام فالتف حوله {فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا * هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا} [الكهف: 13ـ15] وكان هؤلاء الفتيان هدف كل قسوة وظلم واضطهاد وبلاء وعذاب وقد قيل لهم من قبل {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت 2،3] فصمدوا لكل ما وقع لهم وثبتوا كالجبال وقالوا: {هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} [الأحزاب: 22]
حتى أذن الله فى الهجرة ولم تزل الدعوة تشق طريقها وتؤتى أكلها حتى قضى الله أن يحكم رجالها فى العالم ويقيموا القسط ويخرجوا الناس من الظلمات الى النور ومن عبادة العباد الى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا الى سعتها فقد عرف انهم إذا تولوا وسادوا {أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج:41] .
وهكذا جاءت الدعوة بالحكومة كما تأتى الأمطار بالخصب والزرع وكما تأتى الأشجار بالفاكهة والثمر فلم تكن هذه الحكومة إلا ثمرة من ثمرات هذه الدعوة الإسلامية ولم تكن هذه العزة والقوة إلا نتيجة ذلك العذاب الذى تحملوه من قريش وغيرهم وذلك الهوان الذى لقوه فى مكة وغيرها.
وفرق كبير ـ أيها السادة ـ بين الغاية التى تقصد والنتيجة التى تظهر ويظهر هذا الفرق فى نفسية العامل والساعى فالذى يقصد الحكومة يتوانى ويقعد إذا لم ينلها أو انقطع أمله فيها ويشتغل بها عن الدعوة ويطغى إذا نالها وخطر على كل جماعة تتكون عقليتها بحب الحكومة والسعى لها أن تقعد عن الجهاد فى سبيل الدعوة أو تنحرف وتزيغ فى قصدها لأن أساليب الوصول الى الحكومة تخالف أساليب الدعوة. فيجب علينا أن ننقى عقولنا ونفوسنا ونجردها للدعوة وللدعوة فحسب والخدمة والتضحية والإيثار وإخراج الناس بإذن الله من الظلمات الى النور ومن الجاهلية الى الإسلامية ومن ضيق الدنيا الى سعتها ومن جور الأديان المحرفة والنظم الجائرة والمذاهب الغاشمة الى عدل الاسلام وظله ولا يكون دافعنا الى العمل والجهاد إلا امتثال أمر الله والفوز فى الآخرة وما أعد الله لعبادة من الأجر والثواب ثم الشفقة علىا لخلق والرحمة بالانسانية المعذبة والحرص على نجاة الإنسان فإذا كان ذلك لا يمكن فى مرحلة من مراحل الدعوة أو فى فترة من فترات التاريخ ـ بعد تغلغل مبادىء الدعوة فى نفوس الدعاة ورسوخ العقيدة فيهم ـ إلا بالحكومة سعينا لها لمصلحة الدعوة والدين كما نسعى الى الماء للوضوء ونجتهد لهذا السبب بنفس العقلية وبنفس السيرة وبنفس العفة والنزاهة والصدق والأمانة والخشوع والتجرد الذى نجتهد معه لواجبات الدين وأركانه والعبادات الأخرى فلا فرق للمؤمن بين الحكومة وبين العبادات الأخرى فلا فرق للمؤمن بين الحكومة وبين العبادا ت إذا حصل الإخلاص وصحت النية فكل فى رضا الله وكل فى سبيل الله وكل عبادة يتقرب بها العبد الى الله.
3ـ ومما امتازت به حياة الأنبياء عليهم السلام وسيرتهم النبوية المثابرة على الدعوة والصبر عليها فلا يتخطون هذه المرحلة التى هى الأساس بسرعة وعجلة ولا يطفرون منها طفرا الى مرحلة أخرى بل يقضون فيها سنين طوالا ولا يشتغلون بغيرها ولا يطمئنون الى أن المجتمع قد عقل دعوتهم واستساغها ولا الى الدعاة أنهم قد بلغوا رسالتهم وأدوا مهمتهم والى النفوس أنها قبلت هذه الدعوة وهضمتها هضما صحيحا وأحلتها منها محلا لائقا ومردت النفوس على اتباع الأحكام وانقاد لها جماحها ولانت لها قناتها لا يطمئنون الى كل هذا حتى يتحققوه ويختبروه مرة بعد مرة فلا يخدعون عن أنفسهم ولا تغرهم بهرجة الكلام فتكون نتيجة هذه التربية المتينة والدعوة الطويلة أنها تؤتى أكلها ناضجة شهية ولا تخدع الدعوة نتاجها فإذا قامت الحكومة قامت على أساس متين من الأخلاق وعلى أكتاف رجال أقوياء أقوياء فى عقيدتهم أقوياء فى سيرتهم أقوياء فى خلقهم أقوياء فى عبادتهم أقوياء فى سياستهم لا يندفعون مع التيار ولا تجرف بهم المدنية ولا يلعب بعقولهم الغنى بعد الفقر واليسر بعد العسر والقوة بعد الضعف ولا تميل بهم المحسوبيات والآرحام والصدقات ولا تستهويهم المطامع والمنافع هذا كان شأن الخلافة الراشدة وهذه كانت سيرة الخلفاء الراشدين وهنا أنقل مرة ثانية ما قلته فى رسالتى " بين الجباية والهداية ".