وانتقلت هذه اللذة بالعبادة والاهتمام بها الى الصحابة رضى الله عنهم فى أشد الأوقات شغلا وأقلها خاطرا حتى كان أعداؤهم يعرفون ذلك عنهم وقد وصفهم رجل من الروم بقوله: " هم فرسان بالنهار رهبان بالليل " ويقول قائل " لو حدثت جليسك حديثا ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر ".

يأخذون بالعزيمة فى الدين ولا يأخذون بالرخصة

6 ـ ومن مزايا الأنبياء عليهم السلام ومن كان على قدمهم أنهم يأخذون بالعزيمة فى الدين ولا يأخذون بالرخصة ـ إلا بينا للحكم الشرعى وشكرا لنعمة الله ـ ورفعا للحرج عن الأمة ولا يعفون أنفسهم ولا يتساهلون فى العبادات لأن اتباع الناس للدين وعملهم به بمقدار تصلب هؤلاء السادة فى الدين وتمسكهم به فإذا اهتم هؤلاء بالنوافل اهتم الناس بالفرائض وإذا اكتفى القادة بالفرلاائض استرسل الناس الى تركها والاستهانة بحقها لذلك كان الصحابة رضى الله عنهم وقادة هذه ألأمة يشمرون عن ساق الجد فى العبادات والمحافظة على الجماعات والعمل بالسنن الدقيقة والاهتمام بالآداب ولا يكتفون بالأدنى ولا يقفون عند الفريضة وبذلك استطاعوا ان يورثوا الدين هذا الجيل موفورا غير منقوص وهو أمانة عند هذا الجيل فلينظر كيف يورثه الأجيال الآتية.

يعنون بتربية النفوس والأشخاص الذين يضطلعون بأعباء الدعوة بعدهم وينفذون تعاليمهم ورسالاتهم علما وعملا

7 ـ ومما يمتاز به الأنبياء والمرسلون عن الحكماء والمؤلفين والعلماء المحققين أنهم يعنون بتربية النفوس والأشخاص الذين يضطلعون بأعباء الدعوة بعدهم وينفذون تعاليمهم ورسالاتهم علما وعملا ومعلوم أن دعوتهم العظمى لا تقوم إلا على أكتاف الأصحاء الأقوياء الحنفاء المخلصين فى إيمانهم والمخلصين فى تفكيرهم والمخلصين فى نياتهم الذين قد تنقت رءوسهم وصدورهم من ألواث الجاهلية والذين هضموا الاسلام هضما صحيحا وانقطعت كل صلة فى حياتهم عن الجاهلية بأوسع معانيها وخلقوا فى الآسلام خلقا جديدا.

ونرى ذلك واضحا فى حياة سيدنا موسى ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ فلما كان بنو إسرائيل قد نشأوا فى حياة العبودية والذل والاضطهاد والسخرة الظالمة وماتت رجولتهم وإباؤهم ومردوا على الخنوع والاستكانة والخضوع للقوى الغالب وعلىا لجبن والحرص الشديد على الحياة والخوف الشديد من الموت وأسبابه حتى لما قال لهم نبيهم: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} ولم يشجعهم على التقدم والقتال قول موسى عليه السلام: {كتب الله لكم} مع أنه كان ضامنا لانتصارهم وأخيرا قالوا بكل صراحة ووقاحة: {يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] فظهر أن نشأتهم الأولى تأبى عليهم أن يخوضوا فى معركة ويدخلوا فى امتحان ويعرضوا أنفسهم للخطر وقطع موسى من هذا الجيل الفاسد الرجاء وقال: {رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} [المائدة:25] هنالك أمره الله بالاعتزال مع قومه (لا عن قومه) فى بيداء سيناء حيث الشظف وخشونة الحياة وهنالك ينقرض هذا الجيل الفاسد الذى شب على الجبن والضعف وشاب عليه وينشأ الأولاد والشباب الاسرائيلى الذين لا يزالون فى مقتبل العمر على التخشن والجلادة وتحمل شدائد الحياة ومكارهها وينشأ جيل جديد يولد فى هذه العزلة والبداوة على معانى الرجولة والفروسية وهكذا تتكون أمة جديدة تقوم بدعوة النبى وتطبيق تعاليمه ومبادئه وتجاهد فى سبيلها.

وذلك أيها السادة معنى بليغ من معانى الهجرة النبوية فقد استطاع سيد الأنبياء وسيد الدعاة الى الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بانتقاله مع أصحابه من ضيق مكة الى سعة المدينة وحريتها أن يكمل تربية أصحابه وأن ينشىء الجيل الاسلامى الجديد الذى لم يلبث أن اضطلع بأعباء الدعوة المحمدية ومثل الاسلام تمثيلا كاملا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015